الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [المعارج: 42]،
…
إلخ (1).
12 -
ومن ذلك التفرقة بين يعملون ويصنعون. قال الراغب: الصنع إجادة الفعل، فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، ولا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما ينسب الفعل، أ. هـ.، وقال غيره: الصنع أخص من العمل فهو ما صار ملكة منه، والعمل أخص من الفعل؛ لأنه فعل بقصد. وقال في الكشاف: كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير؛ لأن كل عامل لا يسمى صانعًا ولا كل عمل يسمى صناعة. حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وكان المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكلار كان أشد إثمًا من المواقع أ. هـ. والذي أفهمه أن معاصي العوام من قبيل ما يحصل بالطباع لأنه اندفاع من الشهوة بلا بصيرة، ومعصية العلماء بترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف من قبيل الصناعة المتكلفة الفائدة للصانع فيها يلتمسها ممن يصنع له، وما ترك العلماء النهي عن المنكر وهم يعلمون ما أخذ الله عليهم من الميثاق إلا تكلفًا لإرضاء الناس، وتحاميًا لتنفيرهم منهم، فهو إيثار لرضاهم على رضوان الله وثوابه، والأقرب أن يكون من الصنع - لا من الصناعة، وهو العمل الذي يقدمه المرء لغيره يرضيه به (2).
عنايته بالقضايا البلاغية والإعرابية:
وكما عني المفسر بتحقيق المفردات اللغوية، فإنه قد عني كذلك بمسائل البلاغة والإعراب، وقد يكون نصيب هذه أوفر، وذكرها في تفسيره أكثر، ففي المسائل البلاغية نجده يطنب ويسهب فلم يترك بحثًا من مباحث البلاغة إلا وتحدث فيه وأظهر تأثير القرآن فيه، فتحدث عن براعة خواتيم سوره وفواتحها، وبلاغته واختلافها، ومدى دقة التعبير وتحديد الحقائق فيه، وبلاغة التناسب بين سوره
(1) 9/ 405.
(2)
9/ 451.
وآياته وبلاغته في إيجازه، ومن ذلك:
1 -
عند قوله تعالى {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] يقول: (قالوا إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار. بل التحسر والتحزن والاعتذارة فهو بمعنى الإنشاء وذلك أنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت الله والانقطاع لعبادته فيه، والأنثى لا تصلح لذلك عادة لا سيما في أيام الحيض)(1).
2 -
وبعد أن يفسر قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] يقول: (أقول: لا يبعد أن يكون في قوله تعالى بعد نفي الخلة والشفاعة. {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تعريض بهؤلاء الملوك الذين يمنحون بالشفاعة غير المستحق ويمنعون المستحق، ويعاقبون بها البريء ويعفون عن المجرم، والمراد بالكافرين الكافرون بالنعم بقرينة السياق، وهم الذين لا ينفقون في سبل البر والخير. وقد قصر الظلم عليهم، كما أفادت الجملة المعرفة الطرفين تشنيعًا لحالهم، كأن كل ظلم غير ظلمهم ضعيف لا يعتد به؟ لأنهم ظلموا أنفسهم ودنسوها برذيلة البخل ومنع الحق، وظلموا الفقراء والمساكين وغيرهم من الأصناف الذين فرضت لهم الصدقة؛ بمنعهم مما فرضي الله لهم، وظلموا الأمة بإهمال مصالحها المعبر عنها بسبيل الله. وإن أمة يؤدي أغنياؤها ما فرضي الله عليهم لفقرائها ولمصالحها العامة لا تهلك ولا تخزى ولا شيء أسرج في إهلاك الأمة من فشو البخل ومنع الحق في أفرادها)(2).
3 -
وعند قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] يقول:
(وقد ذكر حكم هذا الإنفاق في سبيل الله بعبارة تستفز النفوس، وأسلوب يحفز الهمم، ويبسط الأكف بالكرم، فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
(1) 3/ 288.
(2)
3/ 18.
حَسَنًا} [البقرة: 245] فهذه العبارة أبلغ من الأمر المجرد، ومن الأمر المقرون ببيان الحكمة، والتنبيه إلى الفائدة، والوجه في اختيار هذا الأسلوب هنا على ما قرره الأستاذ الإمام: أن الداعية إلى البذل في المصالح العامة ضعيفة في نفوس الأكثرين، والرغبة فيه قليلة، إذ ليس فيه من اللذة والأريحية ما في البذل للأفراد، فاحتيج فيه للمبالغة في التأثير.
يدفع الغني إلى بذل شيء من فضل مالِه لأفراد ممن يعيش معهم أمور كثيرة، منها: إزالة ألم النفس برؤية المعوزين والبائسين، ومنها اتقاء حسد الفقراء واكتفاء شر شرارهم، والأمن من اعتدائهم، ومنها التلذذ برؤية يده العليا، وبما يتوقعه من ارتفاع المكانة في النفوس، وتعظيم من يبذل لهم وشكرهم وحبهم، فإن السخي محبب إلى جميع الناس من ينتفع منهم بسخائه ومن لا ينتفع، وإذا كان البذل إلى ذوي القربي أو الجيران فحظ النفس فيه أجلى، وشفاء ألم النفس به أقوى، فإن ألم جارك وقريبك ألم لك، ويتعذر على الإنسان أن يكون ناعمًا بين أهل البؤس والضراء، سعيدًا بين الأشقياء، فكل هذه حظوظ للنفس في البذل للأفراد تسهل عليها امتثال أمر الله فيه وإن لم يكن مؤكدًا، وقد يكون فيها من الرياء وحب السمعة ما ينافي كونها قربة وتعبدًا.
وأما البذل الذي يراد هنا - وهو البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته، وحفظ حقوق أهله - فليس فيه شيء من تلك الحظوظ التي تسهل على النفس مفارقة محبوبها (المال) إلا إذا كان تبرعًا جهريًا، يتولى جمعه بعض الحكام والأمراء أو يجمع بأمر الملوك والسلاطين، ولذلك يقل في الناس من يبذل المال في المصالح العامة لوجه الله تعالى، فلهذا كان المقام يقتضي مزيد التأكيد، والمبالغة في الترغيب، وليس في الكلام ما يدرك شأو هذه الآية في تأثيرها ولا سيما موقعها هذا بعد بيان سنة الله تعالى في موت الأمم وحياتها.
حسبك أنه تعالى جعل هذا البذل بمثابة الإقراض له وهو الغني عن العالمين الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإنما يقترض المحتاج - وأنه عبر عن طلبه بهذا الضرب من الاستفهام، المستعمل للإكبار والاستعظام، فإنه إنما يقال: من ذا الذي يفعل كذا؟ في الأمر الذي يندر أن يقدم عليه أحد. يقال: من ذا يتطاول إلى الملك فلان؟ أو من ذا الذي يعمل هذا العمل وله كذا؟ إذا كان عظيمًا أو شاقًا يقل من يتصدى له قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وقال {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: 17].
ولا يقال من ذا الذي يشرب هذه الكأس المثلوجة - وهجير الصيف متقد، والسموم تلفح الوجوه -؟ (1).
4 -
وعند قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
قال: (ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غفور) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات. والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدًّا، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق، وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود، والله أعلم) (2).
(1) 2/ 462.
(2)
2/ 300.
5 -
ومنها قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] قال الأستاذ الإمام: جاءت فيه الباء لمعنى خاص لا يظهر فيما ذكروه هنا من معانيها، وإنما يفهمه العربي من الأسلوب، فإنك إذا قلت هنا كما قال الجلال تقطعت عنهم الأسباب لا ترى في نفسك الأثر الذي تراه عند تلاوة العبارة الأولى التي تمثل لك التابعين والمتبوعين، كعقد انفرط بانقطاع سلكه فذهبت كل حبة منه في ناحية.
أقول وتوضيحه أن هؤلاء المقلدين قد كانوا مرتبطين في الدنيا، ومتصلًا بعضهم ببعض بأنواع من المنافع والمصالح، يستمدها كل من التابع والمتبوع من الآخر، فشبهت هذه المنافع التي حملت الرؤساء على قود المرؤوسين، والتابعين على تقليد المتبوعين بالأسباب، وهي في أصل اللغة الحبال كأنه يقول إن كل واحد منهم كان مربوطًا مع الآخرين بحبال كثيرة، فلم يشروا إلا وقد تقطعت هذه الحبال كلها، فأصبح كل واحد منبوذًا في ناحية لا يصله بالآخر شيء، وعلى هذا تكون الباء متعلقة بمحذوف حال من الفاعل، قال الأستاذ الإمام: ومن هذه الأساليب الخاصة قوله تعالى: (وكفى بالله شهيدًا) و (سبحان الله)، فإذا فسرت ذلك بالتحليل والإرجاع إلى القواعد العامة، فقلت في الأول كفى الله شهيدًا، أو كفت شهادته، وفي الثاني تسبيحًا لله: لم يكن له تأثير الأول وموقعه من النفس، ومثل هذه الأساليب الخاصة توجد في كل لغة.
6 -
وعند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] قال:
(مضت سنة القرآن الحكيم بأن يعلل الأحكام الشرعية ويبين حكمها بعد بيانها، وفي هذه الآيات تعليل بيان لما تقدم من أحكام النكاح. قال الأستاذ الإمام: قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الخ استئناف يأتي كأن قائلًا يقول: ما
هي حكمة هذه الأحكام وفائدتها لنا؟ وهل كلف الله تعالى أمم الأنبياء السابقين إياها أو مثلها فلم يبح لهم أن يتزوجوا كل امرأة وهل كان ما أمرنا به ونهانا عنه تشديدًا علينا أم تخفيفًا عنا؟ فجاءت الآيات مبينة أجوبة هذه الأسئلة التي من شأنها أن تخطر بالبال بعد العلم بتلك الأحكام، وقوله (ليبين) معناه أن يبين فاللام ناصبة بمعنى أن المصدرية كما قال الكوفيون: ومثله {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف: 8] أقول: ويجعل البصريون متعلق الإرادة محذوفًا واللام للتعليل أو العاقبة أي يريد الله ذلك التحريم والتحليل لأجل أن يبين لكم به ما فيه مصلحتكم وقوام فطرتكم. ولهم في هذه اللام أقوال أخرى.
وقد حذف مفعول ليبين لتتوجه العقول السليمة إلى استخراجه من ثنايا الفطرة القويمة، وقد أشار الأستاذ الإمام إلى بعض الحكم في تحريم تلك المحرمات عقب سردها ورأينا أن نؤخر ذكرها فنجعله في هذا الموضع ليكون بيانًا لما وجهت إليه النفوس هنا بحذف المفعول، وإنما كتبنا عنه في مذكرتنا بيان عاطفة الأب السائقة إلى تربية ولده وهي تذكر بغيرها من مراتب صلات القرابة، وإننا نذكر ما يتعلق بهذا المقام بالإيجاز، ومحل الإسهاب فيه كتب الأخلاق) (1).
7 -
وعند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] قال: (نادى الله تعالى بهذه الآية جميع الناس، في سياق خطاب أهل الكتاب، لأن الحجة إذا قامت عليهم بشهادة الله تعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم الإيمان به، فبالأولى تقوم على غيرهم، ممن ليس لهم كتاب ككتابهم، وذكر الرسول ههنا معرفًا لأن أهل الكتاب قد بشروا به، وكانوا ينتظرون بعثته. بعنوان أنه الرسول الكامل، الذي هو المتمم الخاتم. ومما يدل على أن اليهود كانوا ينتظرون من الله مسيحًا ونبيًّا بشر بهما أنبياؤهم، ما جاء في
(1) 5/ 28.
أوائل الفصل الأول من إنجيل يوحنا، وهو أنهم أرسلوا بعض الكهنة واللاويين إلى يوحنا (يحيى عليه السلام ليسألوه من هو، وكانت قد ظهرت عليه إمارات النبوة - فسألوه أأنت المسيح؟ قال لا، قالوا أأنت النبي؟ قال لا. والشاهد أنهم ذكروا له النبي بلام العهد. فلا شك أن يهود العرب ونصاراهم لما سمعوا هذه الآية في زمن التنزيل تذكر مجيء الرسول المعروف بصيغة التحقيق (قد) فهموا أن المراد به الرسول الذي بشرهم به موسى عليه السلام في التوراة
…
وعيسى في الإنجيل
…
ومن لم يعرف شيئًا من أمر هذه البشارات يفهم من التعريف معنى آخر وهو صحيح ومراد وهو أن التعريف لإفادة أن هذا الرسول هو الفرد الكامل في الرسل لظهور نبوته، ونصوع حجته، وعموم بعثته، وختم النبوة والرسالة به، ومعنى كونه جاء الناس بالحق من ربهم أنه جاء بالقرآن الذي هو أبلغ بيان للحق، وأظهرت الآيات المؤيدة له، واختيار لفظ الرب هنا للإشعار بأن هذا الحق الذي جاء به يقصد به تربية المؤمنين وتكميل فطرتهم) (1).
8 -
وعند قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] أي كسبتم، وقيل من الجرح بمعنى الخدش أي أن من شأنها أن تجرح ما تصيده، و (مكلبين) اسم فاعل من التكليب، وهو تعليم الجوارح وتأديبها وإضراؤها بالصيد، وأصله تعليم الكلاب، غلب لأنه الأكثر، وقيل أنه من الكلب (يالتحريك) بمعنى الضراوة، يقال هو كلب (ككتف) بكذا، إذا كان ضاريًا به، وموضع (مكلبين) النصب على الحال، وكذلك جملة {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} أو هي استئناف، أي أنتم تعلمونهن مما علمكم الله، أي مما ألهمكم الله إياه وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليمها، وما ألهمكم ذلك الانتفاع إلا وهو ييح لكم. ونكتة هذه الجملة على القول بأنها حالية مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم؛ لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت فتصطاد لنفسها، ولا تمسك على
(1) المنار 6/ 79، 80.
صاحبها، وإمساكها عليه شرط لحل صدها، نص عليه في الجملة التي بعد هذه، وهذا التعليل الذي ألهمنيه الله تعالى أظهر مما قالوه من أنه المبالغة في اشتراط التعليم، وإذا كانت الجملة استئنافًا فنكتتها تذكير الناس بفضل الله عليهم بهدايتهم إلى مثل هذا التعليم، على سنة القرآن في مزج الأحكام بما يغذي التوحيد وينمي الاعتراف بفضل الله وشكر نعمه وغاية تعليم الجارح أن يتبع الصيد بإغراء معلمه أو الصائد به، ويجيب دعوته، وينزجر بزجره، ويمسك الصيد عليه) (1).
9 -
وعند قوله تعالى: {قَال يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] يقول: (قال جمهور المفسرين: إن (يا ويلتا) كلمة تحسر وتلهف، وإنها تقال عند حلول الدواهي والعظائم، وقال في لسان العرب: والويل حلول الشر، والويلة الفضيحة والبلية. وقيل هو تفجع. وإذا قال القائل: يا ويلتاه! فإنما يعني وافضيحتاه! وكذلك تفسير {يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49] أ. هـ. وهذا هو المعنى الصحيح. والألف في الكلمة بدل ياء المتكلم إذ الأصل: يا ويلتي والنداء للويلة لإفادة حلول سببها الذي تحل لأجله حتى كأنه دعاها إليه وقال: أقبلي فقد آن أوان مجيئك، فهل بلغ من عجزي أن كنت دون الغراب علمًا وتصرفًا؟ والاسستفهام للإقرار والتحسر، وأما الندم الذي ندمه فهو ما يعرض لكل إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ في فعل فعله، إذا ظهر لَهُ أن فعله كان شرًّا له لا خيرًا. وقد يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله تعالى، والتألم من تعدى حدوده، وقصد به الرجوع إليه. وهذا هو المراد بحديث (الندم توبة) رواه أحمد والبخاري في تاريخه والحاكم والبيهقي، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة، وأما الندم الطبيعي الذي أشرنا إليه فلا يعد وحده توبة والتوبة من
(1) 6/ 170.
إحداث البدعة لا تنجي مبتدعها من سوء أثرها، وفي حديث ابن مسعود في الصحيحين مرفوعًا (لا تقتل نفس ظلما إلًا كان على ابن آدم كفل (نصيب) من دمها لأنه أول من سن القتل).
10 -
وعند قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا} [النساء: 43] يقول: (ولا جنبًا) عطف فيه قوله (ولا جنبًا) على قوله (وأنتم سكارى) والمعنى لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبًا، فجملة (وأنتم سكارى) حالية، فهي في حيز النصب، وفرق عبد القاهر في دلائل الإعجاز بين الحال المفردة والجملة الحالية، فمعنى جاء زيد راكبًا أن الركوب كان وصفًا له حال المجئ، فهو تابع للمجيء مقدر بقدره، ومعنى جاء وهو راكب: أن الركوبَ وصف ثابت في نفسه، وقد جاء هو في حال تلبسه به، وقد تكون الجملة الحالية غير وصف لذي الحال، كقولك جاء والشمس طالعة، وقد يتقدم مضمونها فعل ذي الحال الذي جعلت قيدًا له، وقد يتأخر عنه، وأما الحال المفردة، فيعتبر فيها مقارنة فعل الركوب، ولهذا قال بعض فقهاء الشافعية: من قال لله عَلَيَّ أن أعتكف صائمًا وجب عليه أن يصوم لأجل الاعتكاف، ولا يجزئه أن يعتكف في رمضان، ومن قال لله عليّ أن أعتكف وأنا صائم، لا يلزمه صوم لأجل الاعتكاف، بل يجزئه أن يعتكف في رمضان، لأن مضمون الجملة الحالية لا يشترط أن يكون مقارنًا لفعل ذي الحال، كما يشترط ذلك في الحال المفردة. هذا وإني لا أذكُر أني رأيت للمفسرين بيانًا لنكتة اختلاف الحالين في هذه الآية فلم لم يقل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبًا أو لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا أنتم جنب أو يجعل الأولى مفردة والثانية جملة؟ وهل يقع هذا الاختلاف في تعبير القرآن اتفاقًا، أو لمجرد التفنن في العبارة؟ كلا إن النكتة ظاهرة، لا تخفى على من كانت اللغة ملكة له، وقد تخفى عمن تكون صناعة عنده، لا يفهم دقائق نكتها إلا عند تذكر القواعد
الصناعية التي تدل عليها وتدبرها، ومن كانت له الملكة والصناعة قد يفهم المراد في الجملة، ويغفل عن إيضاحها بالقواعد الصناعية. إن التعبير بجمله (وأنتم سكارى) يتضمن النهي عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة، فيفضي إلى آدائها في أثنائه، فالمعنى: احذروا أن يكون السكر وصفًا لكم عند حضور الصلاة، فتصلوا وأنتم سكارى، فامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة، بل وفيما يقرب من وقتها، وليس المعنى لا تصلوا حال كونكم سكارى، وعلى هذا لا يرد الاعتراض الذي أورده الأستاذ الإمام وأجاب عنه بثلاثة أجوبة، وإنما كان يرد لو قال تعالى:(لا تقربوا الصلاة سكارى، أو يقال في دفعه هذا، والجواب الأول من تلك الأجوبة في معنى هذا، ولكنه ليس مأخوذًا من منطوق الآية ومدلول الجملة الحالية، وإنما فهمنا منه أنه مأخوذة من توقف الامتثال على اجتناب السكر قبل الصلاة، وصرح بأنه من باب الاحتياط. وأما نهيهم عن الصلاة جنبًا فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة، ولهذا لم يقل وأنتم جنب. فيا لله العجب من دقة عبارة القرآن الحكيم وبلاغتها واشتمالها على المعاني الكثيرة باختلاف التعبير فقد دلت الآية باختلاف الحالين على أن الشارع يريد صرف الناس عن السكر وتربيتهم على تركه بالتدريج لما فيه من الإثم والضرر ولا يريد صرفهم عن الجنابة لأنها من سنن الفطرة وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا، فهذا النهي تمهيد لفرض الطهارة من الجنابة، وكونها شرطًا للصلاة وذلك النهي تمهيد لتحريم الخمر البتة في سياق إيجاب الفهم والتدبر لما في الصلاة من الأذكار والتلاوة)(1).
11 -
وعند قوله {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] يقول: وفي الجملة مباحث لفظية ومعنوية يتضح بها ما فيها من البلاغة.
(1) المنار 5/ 113.
(الأول) أن في الكلام التفاتًا من الخطاب إلى الغيبة لأن ما قبله خطاب منه سبحانه للمكلفين، والتفاتًا آخر من التكلم إلى الغيبة وإلا لقال: ثم رددنا أو رددناهم على الالتفات - الخ ونكتة الالتفات تفهم من المباحث الأخرى.
(الثاني) أنه جعل فعل الرد مبنيًا للمفعول للدلالة على أن له تعالى رسلًا أخرى - والظاهر أنهم غير رسل الموت ورسل الحفظ - يردون العباد إليه بعد البعث عندما يحشرونهم بأمره للحساب والجزاء، وهي أظهر نكت الالتفات.
(الثالث) ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله (ردوا) للكل المدلول عليه بأحد من قوله (إذا جاء أحدكم الموت)، وأن هذا هو السر في مجيئه بطريق الالتفات، والإفراد أولًا والجمع آخرًا، لوقوع التوفي على الإفراد، والرد على الجملة والمجموع. ونحن نرى أنه لا حاجة إلى تكليف القول برجوعه إلى الكل المدلول عليه بأحد. والالتفات عبارة عن جعل ضمير الخطاب الذي للجماعة ضمير غيبة لهم.
(الرابع) أن هذا الرد يكون بعد البعث فكان الأصل أن يعبر عنه بفعل الاستقبال كما في آية الجمعة {ثُمَّ تُرَدُّونَ} [الجمعة: 8] وعبر هنا بالماضي لإفادة تحقق الوقوع حتى كأنه وقع وانقضى.
(الخامس) من فوائد الالتفات من التكلم إلى الغيبة ذكر اسم الجلالة ووصفه بما وصف به، ولا يخفى أن تأثيره في النفس هنا أعظم من تأثير ضمير المتكلم.
وينقل أبحاثًا أربعة عقدها السكاكي (1)، عند تفسير قول الله تعالى {يَاأَرْضُ ابْلَعِي
(1) المنار جـ 9 ص 345.
مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] تبيّن ما في هذه الآية من علم البيان وعلم المعاني ووضوح الألفاظ والمحسنات البديعية.
وقضايا النحو لم تفت الشيخ في ثنايا تفسيره وإن كانت عنايته بها أقل من سابقتها. وسأضرب مثالًا واحدًا ليتبين للقارئ كيف أن الشيخ رحمه الله قد غاص في معاني النحو، ولم يقف على ألفاظه الجامدة، وكيف جعل النحو أداة لبيان البلاغة فعند تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 117] يقول: (ومن مباحث اللفظ أن البصريين والكوفيين من النحاة اضطربوا في إعراب قوله تعالى: {أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} لمجيئه على خلاف المعهود الشائع من اقتران معمول اسم التفضيل بالباء كقوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة القلم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم: 7] فكان أبعد إعرابهم له عن التكلف أن الباء حذفت منه اكتفاء باقترانها بمقابله المتصل به وهو قوله {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، ومخالفة المعهود في أساليب اللغة لا يكاد يقع في كلام بلغاء أهلها إلا لنكتة يقصدونها به. وكلام رب البلغاء ومنطقهم باللغات أولى بذلك. والنكت منها لفظي كالاختصار والتفنن في الأسلوب، ومنها معنوي وهو أعلى. وقد يكون من نكت مخالفة المعهود الكثير تنبيه الذهن للتأمل، كمن يريد إيقاف سالك الطريق في مكان منه لفائدة له في الوقوف، كما أرى الله تعالى نبيه موسى النار في الشجرة بجانب الطور، فحمل أهله على المكث فيه لما علمنا من حكمة ذلك. وقد بينا هذا النوع من النكت من قبل، وجعلنا منه عطف المرفوع على المنصوب في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [المائدة: 69] أي وكذا الصابئون، أو والصابئون كذلك، خص هؤلاء بإخراجهم عن نسق من قبلهم في الإعراب؛ لأن الناس لم يكونوا يعرفون أنهم بقايا أهل كتاب، وقد يكون حذف الباء في قوله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] للتنبيه إلى التأمل والتفكير في كون الله تعالى
أعلم بأحوالهم؛ لأنها هي المقصودة هنا بالذات، بدليل سابق الكلام ولاحقه، إذ هو فيهم. وما ذكر العلم بالمهتدين إلا لأجل التكملة والمقابلة، ولذلك عطف على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد، فتأمل. ولو جازت الإضافة هنا نحو: أفضل من حج واعتمر- لكان الكلام احتباكا تقديره هو أعلم من يضل ومن يهتدي، وهو أعلم بالضالين وبالمهتدين، فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر، وليس المانع من جواز الإضافة هنا كون صلة مَنْ فِعلًا مضارعًا لا ماضيًا، كالمثال الذي أوردناه ونظائره. بل المانع هو أن المضاف في مثل هذا الكلام من جنس المضاف إليه، وهو ممتنع في الآية؛ لأنه تعالى لا جنس له، ولو اقترن الموصول هنا بالجار فقيل: هو أعلم ممن يضل عن سبيله لجزمنا بالاحتباك (1).
على أنه لا يفوتني أن أنبه على أمرين اثنين:
1 -
أن الشيخ رشيد يأبى أن يقصر التفسير على ذكر النكتة البلاغية، أو أن تكون هي المقصود الأول من التفسير، لأن هذا ربما يخرح القرآن عن قصده الأساسي، وهو أنه كتاب هداية.
2 -
يرفض الشيخ رشيد أن نخضع القرآن أو أيّ قراءة متواترة لآراء النحويين ومذاهبهم، وينعى وينحي باللائمة على الذين نهجوا هذا النهج، فجعلوا القرآن تابعًا، وربما أولوا آية أو ردوا قراءة صحيحة؛ لأنها تخالف مذهب الكوفيين أو البصريين، وربما استندوا فيه إلى بيت من الشعر لم يُعرف قائله. فهم مفتونون بمذاهبهم، كما يقول صاحب المنار، عند تفسيره قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، حيث رد بعض النحاة قراءة حمزة رحمه الله بجر الأرحام مع أنها متواترة (2).
(1) تفسير المنار (8/ 16، 17).
(2)
المنار 4/ 232.