الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنهم من أهل العلم من بالمغازي من قريش وغيرهم، لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح (لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر) ويأثرون عمن حفظوا عنه، ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد، كذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين (1)، ولعلم الله أن أنوار النبوة تنادي على صحة هذا الحديث.
2 - مخالفة الجمهور في معنى الإحصان:
نجده يخالف الجمهور في تحديد من ينطبق عليها معنى الإحصان، فهو يقول عند تفسير قول الله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]: (ثم قيدوا المحصنات هنا بقيد آخر هو كونهن أبكارًا، لأنهم يعدون من تزوجت محصنة، وإن آمت بطلاق أو موت زوجها، والوصف لا يفيد ذلك، فإن المحصنة بالزواج هي التي لها زوج يحصنها، فإذا فارقها لا تسمى محصنة بالزواج كما أنها لا تسمى متزوجة، كذلك المسافر إذا عاد من سفره لا يسمى مسافرًا والمريض إذا برئ لا يسمى مريضًا، وقد قال بعض الذين خصوا المحصنات بالأبكار، إنهن قد أحصنتهن البكارة، ولعمري إن البكارة حصن منيع، لا تتصدى صاحبته لهدمه بغير حقه، وهي على سلامة فطرتها وحيائها، وعدم ممارستها للرجال. وما حقه إلا أن يستبدل به حصن الزوجية، ولكن ما بال الثيب التي فقدت كل واحد من الحصنين، تعاقب أشد العقوبتين، إذ حكموا عليها بالرجم؟ هل يعدون الزواج السابق محصنًا لها، وما هو إلا إزالة لحصن البكارة، وتعويد لممارسة الرجال، فالمعقول الموافق لنظام الفطرة، هو أن يكون عقاب الثيب التي تأتي الفاحشة دون عقاب المتزوجة وكذا دون عقاب البكر أو مثله في الأشد. وقد بلغني أن بعض الأعراب في اليمن، يعاقبون بالقتل كلًّا من
(1) الرسالة ص 139 ت أحمد شاكر.
البكر والمتزوجة إذا زنتا، ولا يعاقبون الثيب بالقتل ولا بالجلد، لأنهم يعدونها معذورة طبعًا، وإن لم تكن معذورة شرعًا).
وما ذكره يبدو مقبولًا من الجهة العقلية، لكنه مخالف لظاهر الأحاديث، إلا أن يقال بأن من رجمن في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، كن ذوات أزواج، فهن المقصودات بالنص وقد وعد رحمه الله أن يتم هذا البحث في سورة النور، حيث قال:(ولا أذكر أنني رأيت حديثًا صريحًا في رجم الأيِّم الثيب، وسأتتبع جميع الروايات عند تفسير آية النور وأحرر المسألة من كل وجه، إن أنسأ الله في العمر) ولكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك.
فرحم الله الشيخ وغفر له وأيًا ما كان الأمر، فإن الشيخ رشيدًا قد خالف الجمهور فيما ذهب إليه، ولا ندري هل ما ذكره ينطبق على الرجل كذلك إن ذهبت زوجته بطلاق أو موت؟ .
وبعد مراجعتي الأحاديث التي ذكر فيها الرجم، يظهر لنا أن الغامدية عند رجمها لم تكن ذات زوج، والحق ما أجمع عليه العلماء خلافًا لما قرره. الشيخ رشيد رحمه الله.
على أن الأستاذ مصطفى الزرقا رحمه الله ذهب في كنابه المدخل الفقهي (1) مذهب الشيخ رشيد، والأستاذ الزرقا رحمه الله على الرغم من كونه حنفيًا لكنه قد يخالف المذهب، يقول ابن عابدين الحنفي في حاشيته في تعليقه على كلام صاحب الدر المختار (واعلم أنه لا يجب بقاء النكاح لبقائه) أي الإحصان، فلو نكح في عمره مرة ثم طلق وبقي مجردًا وزنى رجم) يقول ابن عابدين (قوله واعلم) ذكر هذه المسألة في الدرر، قوله (فلو نكح في عمره مرة) أي ودخل بها، قوله (ثم طلق) عبارة الدرر: ثم زال النكاح وهي أعم لشمولها زوال النكاح بموتها أو ردتها أو نحو ذلك) (2).
(1)(1/ 289).
(2)
حاشية ابن عابدين (4/ 18).
ويظهر أن هذا أمر مجمع عليه بين الأئمة.
3 -
عند تفسيره آية التيمم في سورة النساء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] يرى أن التيمم مباح للمسافر مع وجود الماء، وهذا القول لم يسبق إليه، اللهم إلا ما ذكره صديق حسن خان في بعض كتبه، والمعروف أن صديق حسن خان يسير على نهج الشوكاني، يظهر هذا في تفسيره، فهو اختصار لتفسير الشوكاني فتح القدير، ومع أن الشوكاني في السيل الجرَّار لا يرى هذا الرأي والمجمع عليه عند العلماء وأئمة الأمصار وفقهائها أن التيمم إنما يباح عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله، قال الشيخ الأستاذ الإمام: المعنى أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حدثًا أصغر أو ملامس النساء ولم يجد الماء فعلى كل هؤلاء التيمم فقط.
هذا ما يفهمه القارئ من الآية نفسها إذا لم يكلف نفسه حملها على مذهب من وراء القرآن، يجعلها بالتكلف حجة له منطبقة عليه. وقد طالعت في تفسيرها خمسة وعشرين تفسيرًا، فلم أجد فيها غناء، ولا رأيت قولًا فيها يسلم من التكلف، ثم رجعت إلى المصحف وحده فوجدت المعنى واضحًا جليًّا، فالقرآن أفصح الكلام وأبلغه وأظهره، وهو لا يحتاج عند من يعرف العربية مفرداتها وأساليبها إلى تكلفات فنون النحو وغيره من فنون اللغة، عند حافظي أحكامها من الكتب، مع عدم تحصيل ملكة البلاغة -إلى آخر ما أطال به في الإنكار على المفسرين الذين عدوا الآية مشكلة لأنها لم تنطبق على مذاهبهم انطباقًا ظاهرًا سالمًا من الركاكة، وضعف التأليف والتكرار، التي يتنزه عنها أعلى الكلام وأبلغه. وإذا كان رحمه الله قد راجع خمسة وعشرين تفسيرًا رجاء أن يجد فيها قولًا لا تكلف فيه، فأنا لم أراجع عند كتابة تفسيرها إلا روح المعاني وهو آخر التفاسير المتداولة تأليفًا، وصاحبه واسع الإطلاع فإذا به يقول (الآية من معضلات القرآن) ووالله أن
الآية ليست معضلة ولا مشكلة وليس في القرآن معضلة إلا عند المفتونين بالروايات والاصطلاحات وعند من اتخذوا المذاهب المحدثة بعد القرآن أصولًا للدين يعرضون القرآن عليها عرضًا، فإذا وافقها بغير تكلف أو بتكلف قليل فرحوا وإلا عدوها من المشكلات والمعضلات على أن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن صلى الله عليه وسلم وعن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم: أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وإن حكم الله يلتمس فيه أولًا، فإن وجد فيه يؤخذ، وعليه يعول، ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، وإن لم يوجد التمس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين أرسله إلى اليمن، وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين، وقد رأى القارئ أن معنى الآية واضح في نفسه لا تكلف فيه ولا إشكال ولله الحمد.
سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم إن الآية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين، ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء -وإن كان المقلد لا يُحاجُّ لأنه لا علم له- وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلًا مشكلًا؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح: آلطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء، أم تجويز الخطأ على الفقهاء؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيهما أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها؟ هل يقول منصف إن صلاة الظهر أو العصر أربعًا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء
فيه؟ السفر مظنة المشقة، يشق فيه غالبًا كل ما يؤتى في الحضر بسهولة وأشق ما يشق فيه الغسل والوضوء، وإن كان الماء حاضرًا مستغنى عنه. وأضرب لهم مثلًا هذه الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، فإن الماء فيها كثير دائمًا وفي كل باخرة منها حمامات أو بيوت مخصوصة للاغتسال بالماء الساخن والماء البارد، ولكنها خاصة بالأغنياء الذين يسافرون في الدرجة الأولى أو الثانية، وهؤلاء الأغنياء منهم من يصيبه دوار شديد يتعذر عليه معه الاغتسال، أو خفيف يشق معه الاغتسال، ولا يتعذر، فإذا كانت هذه السفن التي يوجد فيها من الماء المعد للاستحمام ما لم يكن يوجد مثله في بيت أحد من أهل المدينة زمن التنزيل، يشق فيها الاغتسال أو يتعذر، فما قولك في الاغتسال في قطارات سكك الحديد أو قوافل الجمال والبغال؟ .
إلا أن من أعجب العجب غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام، واحتمال ربط قوله تعالى (فلم تجدوا ماء) بقوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) بعيد بل ممنوع ألبتة، كما تقدم، على أنهم لا يقولون به في المرضى؛ لأن اشتراط فقد الماء في حقهم لا فائدة له؛ لأن الأصحاء مثلهم فيه، فيكون ذكرهم لغوا يتنزه عنه القرآن، ونقول إن ذكر المسافرين كذلك، فإن المقيم إذا لم يجد الماء يتيمم بالإجماع، فلولا أن السفر سبب الرخصة كالمرض لم يكن لذكره فائدة، والذنك عللوه بما هو ضعيف متكلف. وما ورد في سبب نزولها من فقد الماء في السفر أو المكث مدة على غير ماء لا ينافي ذلك. رووا (أنها نزلت في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وقد انقطع فيها عقد لعائشة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه والناس معه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء، فنزلت الآية فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الخضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر) رواه الستة وفي رواية (يرحمك
الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهين إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجًا. فهذه الرواية وهي من وقائع الأحوال لا حكم لها في تغيير مدلول الآية، ولا تنافي جعل الرخصة أوسع من الحال التي كانت سببًا لها، ألا ترى أنها شملت المرضى، ولم يذكر في هذه الواقعة أنه كان فيها مرضى شق عليهم استعمال الماء، على تقدير وجوده، وليس فيها دليل على أن كل الجيش كان فاقدًا للماء، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم فيها خاصًّا بفاقدي الماء دون غيرهم، ومثلها سائر الروايات المصرحة بالتيمم في السفر لفقد الماء التي هي عمدة الفقهاء، على أنها منقولة بالمعنى وهي وقائع أحوال مجملة لا تنهض دليلًا، ومفهومُها مفهومُ مخالفة، وهو غير معتبر عند الجمهور، ولا سيما في معارضة منطوق الآية. وإننا نرى رخصة قصر الصلاة قد قيدت بالخوف من فتنة الكافرين كما سيأتي في هذه السورة، ونرى هؤلاء الفقهاء كلهم لم يعملوا فيها بمفهوم هذا الشرط في كتاب الله! ! وروي في سبب النزول أيضًا: أن الصحابة نالتهم جراحة وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت، وروي أيضًا: أنها نزلت فيمن اغتسل في السفر بمشقة وسيأتي.
وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد، بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء، ومنها ما قالوه من وجوب طلبه في السفر وما وضعوه لذلك من الحدود، كحد القرب وحد الغوث. وأذكر أنني عندما كنت أدرس شرح المنهاج في فقه الشافعية قرأت باب التيمم في شهرين كاملين لم أترك الدرس فيهما ليلة واحدة فهل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة تكلم في التيمم يومين أو ساعتين؟ وهل كان هذا التوسع في استنباط الأحكام والشروط والحدود سعة ورحمة على المؤمنين أم عسرًا وحرجًا عليهم؟ وهو ما رفعه الله عنهم.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] العفوّ ذو العفو العظيم، ويطلق العفو بمعنى اليسر والسهولة، ومنه في التنزيل (خذ العفو) وفي الحديث (قد عفوت عن
صدقة الخيل والرقيق) أي أسقطتها تيسيرًا عليكم. ومن عفوه تعالى أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل. ومن معاني العفو محو الشيء، يقال: عفت الريح الأثر، ويقال: عفا الأثر (لازم) أي امَّحى، ومنه: العفو عن الذنب عفا عنه وعفا له ذنبه وعفا) (1).
بقي بعد ذلك النظر في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] من جهة ما تدل عليه من الأسباب المبيحة لتلك البديلة.
ونحن في هذا المقام نريد أن نقف بأنفسنا أمام هذه الجملة من آية الطهارة، ناظرين في تلك الوقفة فقط إلى صلتها بالجملتين السابقتين لنتعرف -بمجرد النظر في الأسلوب- الأحوال التي تريد الآية أن تضع لها أحكامها من جهة الطهارة واستباحة الدخول في الصلاة، وبهذه النظرة نجد آية الطهارة تسوق شرطيات ثلاثًا:
تخاطب المؤمنين أولًا، وتسوق لهم شرطيتين تبين فيهما حكم الحالة التي هم عليها بحسب الطبيعة والعادة، وهي حالة الإقامة، ووجود الماء والقدرة على استعماله، وترشدهم إلى أنهم إذا أرادوا الصلاة -وكانوا طبعًا على حالة من الحدث المنافي للصلاة- وجب عليهم أن يتطهروا طهارة صغرى إن كان الحدث أصغر، وهي الوضوء المذكور في الشرطية الأولى وهي قوله:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. وطهارة كبرى إن كان الحدث أكبر وهي الغسل المذكور في الشرطية الثانية، وهي قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وظاهر أن الحكم في هاتين الحالتين لم يدخل في حيثياته سوى الاعتبارات الطبيعية الجارية علي الناس بحكم العرف والعادة، ولم ينظر فيها إلى طاري عليهم من مرض أو سفر، أو فقدان ماء، أو عجز عن استعماله، وبعد هذا صار من الحتم
(1) 5/ 128 وما بعدها.
استيفاء لأحكام هذه الأحوال الطارئة أن نعرفها، وأن نعرف أساس الحكم فيها من هذه الطوارئ، فجاءت الشرطية الثالثة تبين لنا الحكم في ظل تلك الطوارئ. ولما كان الأصل الذي عليه الناس هو صحتهم، وإقامتهم، ووجود الماء فيما بينهم، وعلى هذا الأصل جاء الحكم في الشرطيتين السابقتين، كان من الضروري أن تعرض الآية للأحوال الطارئة على هذا الأصل، وهي أحوال المرض والسفر، وعدم وجود الماء، فذكرت الشرطية الثالثة الحكم في الأحوال الثلاثة بعناوينها الخاصة فقالت:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وعلى هذا يكون (المرض) عارضًا مبيحًا للتيمم بنفسه دون أي اعتبار آخر معه، سواء صحبته إقامة أم سفر. أو وجود ماء أو فقده، أو حدث أصغر أو أكبر، ويكون (السفر) عارضًا مبيحًا للتيمم بنفسه دون أي اعتبار آخر معه سواء صحبه مرض أو صحة، أو وجود ماء أو فقده في حدث أصغر أو أكبر، ويكون (فقد الماء) عارضًا مبيحًا للتيمم بنفسه صحبته صحة أم مرض، إقامة أو سفر، في حدث أصغر أم أكبر، وبهذا تكون الشرطية الثالثة جاءت لبيان أحكام الحالات التي طرأت على ما هو الشأن في الناس من الإقامة، والصحة، ووجود الماء.
هذا هو الذي نفهمه من الأسلوب القرآني بمجرد النظر فيه، وتتبع الأحوال التي دلت عليها العادة الجارية، وأشارت إلى ما يخالفها العناوين الخاصة التي ذكرت في تلك الشرطية من (المرض، والسفر، وعدم وجدان الماء) وبذلك يكون (المرض) مبيحًا للتيمم كيف كان، وعلى أي حال كان المريض، ويكون (عدم وجدان الماء) مبيحًا للتيمم كيف كان الفاقد له، وعلى أي حال كان، فالمريض يتيمم، والمسافر يتيمم، وفاقد الماء يتيمم، وكلها أسباب مستقلة مبيحة للتيمم.
أما الجمهور فقد قالوا: إن المذاهب المعروفة عندنا لا تبيح التيمم للمسافر إلا عند فقد الماء، ولا يمكن أن يعقل ذلك من أرباب المذاهب كلها إلا إذا كان لديهم
أصل لذلك الحكم يجعلهم يقفون أمام الآية هذا الموقف الذي وقفوه، وكانت به في نظرهم من المشكلات المعضلات، ولكن أي أصل هذا الذي يقف أمامهم قبل القرآن، ويجعلونه حكمًا على القرآن؟ قالوا: إن الأحاديث والروايات التي ذكرت السفر والتيمم فيه، كانت كلها مجمعة على أن القوم لم يكن عندهم ماء وهم على سفر، وأن التيمم أبيح لهم وهم على تلك الحال، ونحن نقول: أبيح لهم التيمم وهم على تلك الحال، وهل منعوا منه وهم على سفر مع وجود الماء؟ لم يرد ذكر حالة مثل هذه، وليست الإباحة في الحالة التي وقعت لهم مانعة من الإباحة في مثل تلك الحالة إذا وقعت، ولم يوجد نص قولي يعم الأحوال كلها، ويحدد ما يباح التيمم فيه للمسافر وما لا يباح، فأكل ما ورد وقائع أحوال لا عموم لها ولا تدل على انتفاء الحكم في غيرها. قالوا: إن ذكر السفر هنا لدفع توهم أنه مرخص بذاته، كما عرف له ذلك في الصلاة والصوم، وكأنه يقول إن السفر في هذا الباب ليس مرخصًا بذاته، ولا أثر له في إباحة التيمم إلا إذا عدم الماء كالمقيم سواء بسواء، ولعلهم يقولون بمثل ذلك في المرض ويمنعون تيمم المريض متى كان الماء موجودًا، وإلى هذا ذهب بعض الفقهاء، ونحن نقول: كان يكفي الاقتصار على عدم وجود الماء، فيعم الأحوال كلها، ويفهم ذلك الذي تقولون من مجرد الاقتصار على عدم الماء، ومن المعلوم أن الرخصة لا تثبت لحالة خاصة إلا إذا نص عليها، وما لم ينص عليها يعمها الحكم دون استثناء، ثم كيف يقبل أن المرض لا يبيح التيمم، وعندئذ يقولون دفعًا لهذا: إن المراد بعدم الوجدان عدم القدرة على استعماله والانتفاع به، ويكون بذلك عدم الوجدان مستعملًا في حقيقته ومجازه، فإن قالوا: دل على هذا الاستعمال قاعدة نفي الحرج وما أباحه الله من الرخص في حالة المرض، قلنا: وبمثل هذا يقال في السفر، فقد أباح الله فيه -كما أباح في المرض- الإفطار في رمضان، وقصر الصلاة والجمع بين الصلوات، وما إلى ذلك من سائر الرخص التي رتبها الشارع عليهما معًا.
ولقد رأى الشيخ شلتوت رحمه الله رأي صاحب المنار مع أنه يخالفه في أحيان كثيرة يقول رحمه الله: ولا يقال إن هناك فرقًا بين الحدث الأصغر والأكبر، لأن إباحة التيمم تشملهما معًا للمريض وللمسافر، وقد جمع القرآن بينهما في قوله سبحانه {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وليس من المقبول ولا من المعقول أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون أن التيمم مباح مع وجود الماء للمسافر، وأن يكون هذا موقفهم من عمرو بن العاص رضي الله عنه، سامح الله الشيخ رشيدًا ومن بعده الشيخ شلتوت رحمهما الله تعالى ومعهما الشيخ محمد عبده.
وإذا كان قول الشيخ رشيد في المسألة السابقة -أعني قضية الرجم، ورأيه أن الإحصان يشترط له دوام الزواج- أقول إذا كان في هذا الرأي وجاهة، فإن ما قاله في هذه المسألة، وهي مسألة تيمم المسافر مع وجود الماء، فيه شيء من الغرابة، ومع أن الشيخ أطال النفس في دفاعه عن رأيه، وهو رأي الإمام الشيخ محمد عبده، فإن كل ما ذكره لا يخلو من مناقشة، وما أبعد الفرق بين قصر الصلاة المباح للمسافر، وبين تيممه مع وجود الماء، فقصر الصلاة رخصة ذكرت في كتاب الله تعالى، وبينها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يجوز للمسافر أن يتم الصلاة عند أكثر الأئمة إلا أن القصر أفضل، أما التيمم فهو عبادة بديلة عند فقد الماء أو عدم القدرة على استعماله، والمتتبع لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحوال الصحابة رضي الله عنهم، كما أنبأت عنها السير والأخبار يدرك أنهم كانوا يتوضئون ويغتسلون، وما كانوا يتيممون مع وجود الماء ونستدل هنا بما كان من عمرو بن العاص رضي الله عنه حينما أجنب وتيمم لعدم قدرته على استعمال الماء البارد، وعجب الصحابة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فأقره على عمله، ولو كان التيمم مباحًا مع وجود الماء ما كان في القضية غرابة مع أن إسلام عمرو رضي الله عنه، كان متأخرًا (هاجر إلى