الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- محاربته للبدع:
ويظهر هذا باعتباره مقصدًا من مقاصد تفسيره، كلما سنحت له فرصة لذلك. فمثلًا ينعى على هؤلاء الناس الذين يظنون أن الموالد من الدين، وهم يغمضون أعينهم عن كل ما فيها من منكرات. يقول (وأظهرها في هذه البلاد الاحتفالات التي يسمونها الموالد. ومن العجيب أن يتبع الفقهاء في استحسانها الأغنياء، فصاروا يبذلون فيها الأموال العظيمة، زاعمين أنهم يتقربون بها إلى الله تعالى، ولو طلب منهم بعض هذا المال، لنشر علم أو إزالة منكر أو إغاثة منكوب، لضنوا به وبخلوا -ولا يرون ما يكون فيها من المنكرات منافيًا للتقرب إلى الله تعالى، كان كرامة الشيخ الذي يحتفلون بمولده، تبيح المحظورات وتحل للناس التعاون على المنكرات .. ويَرى كبار مشايخ الأزهر يتخطون هذا كله لحضور موائد الأغنياء في السرادقات والقباب العظيمة التي يضربونها، وينصبون فيها الموائد المرفوعة، ويوقدون الشموع الكثيرة احتفالًا باسم صاحب المولد، ويهنئ بعضهم بعضًا، بهذا العمل الشريف في عرفهم)(1). وذكر الأستاذ الإمام عند شرح مفاسد الموالد أن بعض كبار الشيوخ في الأزهر دعوه مرة للعشاء عند أحد المحتفلين فأبى، فقيل له في ذلك فقال:(إنني لا أحب أن أكثر سواد الفاسقين)(2).
كما نجد مثل هذا التنديد بالبدع وهو يبين أنواع الشرك، عند تفسير الآية {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] (3).
جـ- محاربته للتقليد والتعصب المذهبي:
يذكر السيد رشيد رضا في مقدمة كتابه تاريخ الأستاذ الإمام، أن الأستاذ
(1) المنار جـ 2 ص 74 - 75.
(2)
المنار جـ 2 ص 74 - 75.
(3)
المنار 5/ 82.
كان يجمع بين الصلاتين دونما عذر، وهذه كبيرة عند المقلدين (1)، وإذا نظرنا في تفسيره رحمه الله، فسنجد أنه لا يكتفي بعدم التعصب لمذهب معين، وإنما يهاجم التقليد والتعصب، وينعى على أصحابهما. يظهر هذا جليًّا عند تفسيره لقول الله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] حيث يرجح بالأدلة رأى ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله (2). كما نراه عند تفسير قول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} [النساء: 43] يذكر أنه قرأ خمسة وعشرين تفسيرًا فلم تشف غليله. ويفسر الآية على أنها تبيح التيمم للمسافر مع وجود الماء (3).
وقد أوضح الأستاذ رأيه في مسألة الاتباع والتقليد بقوله (ولكن رؤساء التقليد حالوا بين المسلمين وبين كتاب ربهم، بزعمهم أن المستعدين للاهتداء به قد انقرضوا، ولا يمكن أن يخلفهم الزمان، لما يشترط فيهم من الصفات والنعوت التي لا تتيسر لغيرهم، كمعرفة كذا وكذا من الفنون الصناعية، والإحاطة بخلاف العلماء في الأحكام، والذي يعرفه كل واقف على تاريخ الصدر الأول من المسلمين، هو أن أهل القرنين الأول والثاني، لم يكونوا يقلدون أحدًا، أي لم يكونوا يأخذون بآراء الناس وأقوال العلماء بل كان العامي منهم على بينة من دينه (4). يعرف من أين جاءت كل مسألة يعمل بها من مسائله، إذ كان علماء الصدر الأول رضي الله عنهم، يلقنون الناس الدين، ببيان كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (5). وكان الجاهل
(1) وهذه كبيرة عند فقهاء أهل السنة لا عند المقلدين كما يقول الشيخ رشيد وإن الذين يجمعون بلا عذرٍ هم الشيعة والإباضية. انظر الموسوعة الفقهية 15/ 292.
(2)
المنار 2/ 381.
(3)
وسنناقش هذه القضية مناقشة تامة عند حديثنا عن الشيخ رشيد رحمه الله.
(4)
هذا الكلام لا يسلم للشيخ، فما ذكره يصدق على علمائهم دون عوامّهم.
(5)
المنار جـ 2 ص 81 - 84، وسيأتي نقاش هذه المسألة في حديثنا عن منهج الشيخ رشيد.
بالشيء يسأل عن حكم الله فيه، فيجاب بأن الله تعالى قال كذا، أو جرت سنّة نبيه على كذا، فإن لم يكن عند المسؤول فيه هدى كتاب أو سنة، ذكر ما جرى عليه الصالحون، وما يراه أشبه بما جاء في هذا الهدى أو أحال على غيره.
ولما تصدى بعض العلماء في القرن الثاني والثالث لاستنباط الأحكام، واستخراج الفروع من أصولها، ومنهم الأئمة الأربعة -كانوا يذكرون الحكم بدليله، على هذا النمط، فهم متفقون مع الصحابة والتابعين (عليهم الرضوان) على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد في الدين، ما لم يعرف دليله ويقتنع به، ثم جاء من العلماء المقلدين في القرون الوسطى (1)، من جعل قول المفتي للعامي بمنزلة الدليل، مع قولهم بأنه لو بلغه الحديث فعمل به كان كذلك أو أولى. ثم خَلفَ خَلفٌ أعرق منهم في التقليد، فمنعوا كل الناس أخذ أي حكم من الكتاب والسنة، وعدوا من يحاول فهمها والعمل بها زائغًا. وهذه غاية الخذلان وعداوة الدين، وقد تبعهم الناس في ذلك فكانوا لهم أندادًا من دون الله، وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبر الله) (2).
ثم نقل الأستاذ عن الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، النهي عن الأخذ بقولهم من غير معرفة دليلهم، والأمر بترك أقوالهم لكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا ظهرت مخالفة لهما أو لأحدهما. وبعد ذلك يواصل استعراض مواقف المتأخرين، فيقول (وهناك قول آخر للمتأخرين مبني على أن الأمة جاهلة لا تعرف من الدين شيئًا لا من أصوله ولا من فروعه، ولا سبيل إلى تكفير هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام، ولا إلى إلزامهم معرفة العقائد الدينية من دلائلها، والأحكام الشرعية بادلتها وعللها. فلا مندوحة إذن عن القول
(1) لا بد من التنبيه على أن اصطلاح القرون الوسطى هو اصطلاح فكري يصدق على عصور الظلام في أوروبا القديمة، ولا نوافق الشيخ رحمه الله في إطلاقه هدا الاصطلاح على القرون الإسلامية المتأخرة، مع أنها كانت دون العصور الإسلامية المتقدمة في مستواها الفكري.
(2)
المنار (2/ 81 - 84)، وهذا لا يخلو من غلو ومبالغة.
بجواز التقليد في الأصول، وهي ما يجب اعتقاده في الله وصفاته، وفي الرسالة والرسل، وفي الإيمان بالغيب وهو ما فصله النص القطعي، والتقليد في الفروع العملية بالأولى. وهذا القول مخالف لإجماع سلف الأمة، وما قاله إلا الذين يحبون إرضاء الناس، بإقرارهم على ما هم عليه من الجهل، وإهمال ما وهبهم الله من العقل، لينطبق عليهم قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. والمراد أن قلوبهم أي عقولهم، لا تفقه الدلائل على الحق، وأعينهم لا تنظر الآيات نظر استدلال، وأسماعهم لا تفهم النصوص فهم تدبر واعتبار، فهذه صفات المقلدين) (1). ثم يختتم حديثه بقوله: (والقول الوسط بين القولين، هو أنه يجب النظر في إثبات العقائد بقدر الإمكان، ولا يشترط فيه تأليف الأدلة على طريق المنطق ولا طريق المتكلمين. وإن أفضل الطرف وأمثلها في ذلك، هو طريق القرآن الحكيم، في عرض الكائنات على الأنظار، وإرشادها إلى وجه الدلالة فيها على وحدانية مبدعها وقدرته وحكمته .. وأما فرض الأمة جاهلة، وإقرارها على ذلك اكتفاء باسم الإسلام، وما يقلد به الجاهلون أمثالهم من الأحكام، فهو من القول على الله بغير علم ولا سلطان. وقد قرنه تعالى جمع الشرك في التحريم بقوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام فمنها ما لا يسع أحدًا التقليد فيه،
(1) قضية التقليد للعلماء فيها أقوال سديدة في كتب علم الكلام وكتب الفقهاء، والآية التي أوردها (ولقد ذرأنا لجهنم .. ) الآية لا تدل على ما أراد أن يستدل عليه، فسياقها في غير سياق تقليد العوام، وإنما جاءت في الحديث عن المشركين، والتقليد الوارد فيها لا يطابق التقليد الذي تحدث عنه الشيخ.