الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جهة ومن جهة أخرى في رأي أن المفسر كانت له اليد الطولى، والقدح المعلّى، والقدم الراسخة في الكتابات الأدبية والتحليل الفني، فلا مانع من أن يكون ذلك قد أثر في كتابة الرجل، وليس معنى هذا أن التفسير خالِ تمامًا من الوقوف عند العناية بالتراكيب اللغوية فلقد مر معنا بعض الصور التي استخرجها المؤلف وبين الدقة الفنية فيها وها هو زيادة على ما تقدم معنا يقول عند قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، (ونقف لحظات أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه، فالأصل في تركيب الجملة إنه نعم ما يعظكم به
…
لكن التعبير يقدم لفظة الجلالة فيجعله (اسم إن) ويجعل نعم ما (نعمّا) ومتعلّقاتها في مكان خبر إن بعد حذف الخبر
…
إن ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله سبحانه وهذا الذي يعظهم به) ومع هذا فإن من الصعب على عشاق الدراسات التقريرية -الذين يريدون أن يقفوا عند كل لفظة ليقرروا أصلها وموقعها الإعرابي- أقول من الصعب أن يجدوا بغيتهم في الظلال.
ثانيًا: عدم اهتمامه بالخلافات الفقهية:
كذلك يلاحظ القارئ عدم اهتمام المفسر كثيرًا بالخلافات الفقهية حتى إن ذلك ليظهر في بيان آيات الأحكام التي مر معنا طرف منها، فهو يذكرها جملة بحيث يظهر حكمة التشريع، ولكن هذا لا يشفي غلة بعض الناس وبخاصة هؤلاء الذين يريدون أن يرتووا من المنهل القرآني في أحكام الفقه.
إن للرجل فهمًا في معنى الفقه يرجع به إلى ما قبل وضْع المصطلحات العلمية، يظهر هذا حينما يتحدث عن الفقه وحينما يتحدث عن العبادة (فهو لا يرى الوقوف عند هذه المصطلحات ولا يرضى الجمود على ما ذكره المتأخرون، فهو مثلًا يرى أن هناك فرقًا بين فقه الدعوة وفقه الأوراق، كما لا يرى صحة الاصطلاح الشائع بتقسيم الفقه إلى عبادات ومعاملات وتخصيص العبادات بما خصص لها من صلاة وصيام. يقول في تفسير سورة هود (1): إن تقسيم النشاط الإنساني إلى (عبادات)
(1)(4/ 1937).
و (معاملات) مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة الفقه (ومع أنه كان المقصود به في أول الأمر مجرد التقسيم الفني الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه مع الأسف أنشأ فيما بعد آثارًا سيئة في التصوير تبعها -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها، إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة العبادة إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله فقه العبادات، بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط الذي تناوله فقه المعاملات، وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه، فلا جرم أن يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي- ليس في التصوير الإسلامي نشاط إنساني لا ينطق عليه معنى العبادة أو لا يطلب منه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة أولًا وأخيرًا.
والذي نراه أنه مع صحة هذا الأمر في كثير من جوانبه وتصوراته، إلا أنه ليس السبب فيه هذه التقسيمات التي وضعها العلماء وقعدوا بها هذا العلم، وإنما السبب إدراكات الناس ووعيهم الضعيف على حقيقة هذا الدين وتطبيقاته، حتى وقعوا في مثل هذا الخلل وهذه الأخطاء، أما التقسيم الفني والمنهجي الذي وضعه العلماء فلا يحمل هذا العيب وقد أخذ (1) على سيد موقفه من الفقهاء والمشتغلين بالفقه، وقسوته عليهم في عباراته ودعوته إلى تأجيل الدعوة إلى النظام الإسلامي، والسخرية بفكرة تجديد الفقه وتطويره وبإحياء الاجتهاد
…
وأنه يسعى إلى القضاء على الفقه، وإلى إهدار الجهود الكبيرة التي بذلها الفقهاء على مدار القرون، وأنه يدعو إلى ما يسميه بالفقه الحركي، ويسعى إلى القضاء على الفقه مسميًا إياه بفقه الأوراق.
والذي يقرأ الظلال ويفهم رسالة صاحبه من خلاله يدرك بجلاء ووضوح مدى إجحاف الكثيرين في النظر إلى آراء سيد ونقدها.
(1) انظر أولويات الحركة الإسلامية أ. د. يوسف القرضاوي ص 117، الاجتهاد في الإسلام للدكتور القرضاوي/ ص 101 مقالة (المعتدون على الفقه الإسلامي) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، د. وهبة الزحيلي.
إن دعوة سيد واضحة إلى وجوب الانشغال بالدعوة إلى الله تعالى، وتأسيس المجتمع الإسلامي، والانطلاق من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية في تأصيل قضايا المجتمع الإسلامي هذا، والنظر إلى الواقع وحاجاته وربط هذه القضايا الفقهية التي يبحثها بعض العلماء بحثًا فقهيًا نظريًا بعيدً عن الواقع- ربطها بروح هذا الدين وعقيدته، والعمل له بما يتناسب وتأسيس المجتمع الإسلامي الجديد، وأن يتم تأجيل الكثير من المباحث التحقيقية التفصيلية إلى حين إقامة هذا المجتمع.
يقول رحمه الله وهو يبين دور المنهج الرباني في بلوغه بالناس المستوى العالي والمتقدم ومستوى الكمال، يقول: وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة، ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات، ولكن للروح التي وراءها أيًا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها (1).
ويقول: والمنهج الإسلامي منهج واقعي لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل، ومن ثم لا يشتغل أصلًا بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع، إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتعل بالأحكام، هذا ليس منهج هذا الدين، هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلًا، بدلًا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين) (2).
ونحن وإن كنا نوافق سيدًا في دعوته إلى ضرورة عدم الانشغال بكثير من القضايا اللازمة للمجتمع والدولة قبل تكوينها، فإننا لا نقره أبدًا في وصفه العلماء المشتغلين في قضايا الفقه بأنهم (فارغون) وأن منهجهم منهج الفارغين.
هذا هو اجتهاده فيما يراه من ضرورة انشغال العلماء والفقهاء، لكننا نرى أيضًا
(1) الظلال (2/ 777).
(2)
الظلال (3/ 1519).