الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للقوانين المادية؛ ذلك لأن هذا التفسير إن كان يخدمنا من جهة، فإنه أكثر هدمًا من جهات أخرى.
وكلما أمعنَّا في الانحياز إلى جانب المادة في تفسير النصوص، فإننا بذلك نزيد أعداءنا تمكينًا في انقضاضهم على عقائدنا، فنحن حينما نريد أن نثبتها بالعلم، وقد مكن لهم فيه أكثر منا، يكون نفيهم لها أشد.
تلكم بعض نماذج من تفسير الأستاذ، رأينا عليها مسحة الحضارة الغربية، وصبغة التأويل واضحة جلية. مما يؤكد ما ذهبت إليه من قبل.
تاسعًا: تقويم التفسير:
لقد كان الأستاذ رائد الفكر في هذا العصر، ولقد كانت مدرسته في التفسير مَنْهَلًا لا لأتباعه فقط، بل لجميع المدارس التي جاءت من بعده، ولا عجب في ذلك، فشخصيته ومركزه وثقافته تخوله كل ذلك، ولا يقلل من شأن تفسيره تلك المؤثرات التي تأثر بها، فهذه طبيعة الإنسان بل طبيعة تفكير يكمل بعضه بعضًا، ولقد استطاع الأستاذ رحمه الله أن يخترق هذه الأسوار التقليدية، التي كانت تحول بين كثير من المسلمين وبين فهم القرآن وكيفية الاستفادة منه.
وإذا كان قد بدأ في تفسيره معتدلًا في تأثره بمدرستي الصوفية والسلفية، فإنه كان مبالغًا في تأثره بالمعتزلة كما رأينا. ولكنه كان مغاليًا متطرفًا في تأثره بالحضارة الغربية وفلسفتها. ولقد كانت سيئات هذا التأثر أكبر من حسناته فيما بعد.
ونحن إذ نقدر هذا التفسير، وندعو الله لصاحبه بالرحمة والمغفرة، فإنني كنت أود أن لا ينساق وراء روايات ضعيفة، وإنكار روايات صحيحة أو تأويلها، وألا يخرج بالعقل عن نطاق دائرته، الأمر الذي لقي من المستشرقين استحسانًا بل إعجابًا، وكان له في نفوسهم صدى عميق الأثر، وقد عدوه القوة الوحيدة التي يمكن أن تخترق جدار المحافظين المسلمين. وقد وضح (جب) المستشرق
الإنجليزي وأحد مستشاري وزارة الخارجية حقيقة الدور الذي تلعبه مدرسة محمد عبده إذ يقول: (إن في كل البلاد الإسلامية حركات معينة، تختلف قوة واتساعًا، ترمي إلى تأويل العقائد الإسلامية وتنقيحها، وقد اتجهت مدرسة محمد عبده بكل فروعها وشعبها نحو تحقيق هذا الهدف)(1) ويثني على الشيخ محمد عبده وتلاميذه، الذين يمتزجون بالصفوف الأوروبية) (2).
ونحن أكثر منه ثناء وأشد منه حبًا، لا من أجل ما قصده (جب) ولكن من أجل ما قصده الشيخ نفسه، فلقد كان رحمه الله ذا قصد نبيل، يظهر في محاولته تيسير فهم القرآن من أجل أن يحكمه المسلمون في شؤون حياتهم كلها، ولكن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة.
وسيبقى الأستاذ حيًّا في مدرسته في التفسير، التي لا زالت تمد المسلمين بغذاء فكري ومنهج قويم في فهم القرآن، لولا بعض الهفوات، وحبذا لو جمع تفسيره على حدة، ليسهل على الدارسين مطالعته.
ولقد تتلمذ في مدرسة الأستاذ، أعلام من رجال العلم في حياته، وبعد وفاته، وإن اختلفوا فيما بينهم قوة وضعفًا ومنهجًا وأسلوبًا، إلا أنهم يشدهم أصل واحد، هو ارتباطهم بهذه المدرسة، ومن الإنصاف أن نقرر هنا أن تقديرهم للشيخ، لم يصل بهم إلى درجة التعصب لآرائه، فكثيرًا ما يخالفونه ويستدركون عليه، وعليه فلقد بقيت شخصيتهم العلمية، دون أن تذوب أو تتلاشى. ولعل ذلك يرجع إلى روح البحث العلمي من جهة، وإلى نفس الشيخ ومسلكه من جهة أخرى. فكم من مبتلين بآفة التبعية والتقليد، يدافعون عن كل باطل ممن اتبعوه، وهو يزين لهم ذلك ويحببه.
ويحسن بنا هنا أن ننبه على أمر، ألا وهو أن بعض الباحثين، قد قوم هذه
(1) إلى أين يتجه الإسلام ص 63.
(2)
الاتجاهات الحديثة في الإسلام ص 84.
المدرسة برجالاتها المختلفين تقويمًا واحدًا، فهو يعد رجال هذه المدرسة متفقين في كل صغيرة وكبيرة.
وهذا ضرب من التحكم لا نرتضيه، فقد جمع هذه المدرسةَ أصولٌ وجذور انتموا إليها، وعلى أساسها انطلقوا مثل الاتجاه الهدائي والاجتماعي، وترك التقليد، لكنهم قد اختلفوا في أصول وفروع أخرى، فعلى سبيل المثال قد عدّ الدكتور فهد الرومي محمد فريد وجدي من هذه المدرسة، ثم نقل رأيه في مسألة القضاء والقدر، وأنه يقول بالجبر، وبعد هذا نقل رأي أرباب هذه المدرسة القائلين بالاختيار، ونسب إليهم التناقض والاضطراب (1).
وهذا كلام مضطرب ومتناقض، وإلا فيلزمنا عليه أن ننسب التناقض والاضطرات إلى مدرسة الحنفية التي تعددت الآراء فيها حتى أصبحت مذاهب وفهومًا متعددة، وأهل مدرسة الرأي وغيرها من المدارس الفقهية والكلامية وإلى المدرسة السلفية كذلك.
من أجل هذا آثرت أن يكون حديثي عن رجالات هذه المدرسة منفصلًا غير متداخل كما صنع الرومي، فألزمهم التناقض والمروق من الدين والفساد الفكري حتى كاد يخرجهم من ربقة الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالحديث عن هؤلاء الأعلام كل على حدة يعطينا تصورًا عن شخصية كل واحد منهم، ومدى عمقها وتأثيرها، وتأثرها وإنتاجها من الشخصيات الأخرى، وهذا أقرب للعدل والإنصاف العلمي من الطريقة الأخرى، وكنا نود أن يكون الدكتور فهد بعيدًا عن هذا الغلو الذي سلكه في كتابه.
وسأحاول إن شاء الله أن أتتبع رجال هذه المدرسة، ومناهجهم في التفسير واحدًا واحدًا، وإن من أبرز هؤلاء وألصقهم بالأستاذ، وهو الذي حفظ لنا تراثه وأول من ناداه بالإمام، السيد محمد رشيد رضا.
(1) منهج المدرسة العقلية فهد الرومي جـ 2 ص 543.