الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعمر الحق إنها لإشارات بديعة، تلك التي يشير إليها الإمام ينبغي على المسلمين أن يجعلوها أمام أعينهم دائمًا، ولكن واقع المسلمين لا يزال على ما كان عليه، بعيدًا عن روح الإسلام وهدي القرآن! ! .
وهكذا يبين الأستاذ مواطن الهداية القرآنية، وذلك من أجل قيام المجتمع المسلم وتنظيمه وتكافله، على قواعد متينة راسخة من تشريعات القرآن، التي تنظم الحياة كلها، وقد أبان لنا الشيخ علاقة الهداية بالعقل والوجدان، ومآل الهداية في الدارين، وهو بذلك يكشف لنا عن مدى حرصه على إبراز هداية القرآن في سعادة الإنسان، وقد كتب ذلك كله بأسلوب مشرف، وبلاغة واضحة نابعَيْن من عقل وقلب استنارا بنور القرآن.
6 - دحضه الشبهات:
والأستاذ لا يكتفي بهذا الموقف، أعني موقف البيان لهداية القرآن، بل إلى جانب هذا الموقف نرى له موقفًا آخر، فهو لا يدع فرصة تمر، إلا وينافح عن الدين فيها بكل ما آتاه الله من بيان وحكمة، مطاردًا الشبه الباطلة والترهات التي يشيعها أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا، مما قد التبس على بعض المفسرين، ويكفي الأستاذ فخرًا رده على (فرح انطون) وتصديه لـ (هانوتو) وزير خارجية فرنسا، وسأكتفي بإيراد بعض الأمثلة:
أ- يعقب الأستاذ على تفسيره لآيات القتال في سورة البقرة بقوله: (وما قررناه أبطل ما يهذي به أعداء الإسلام، حتى من المنتمين إليه من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين المتعصبين إنه ليس دينًا إلهيًا، لأن الله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء، وإن العقائد الإسلامية خطر على المدنيَّة - فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين)(1).
(1) المنار جـ 2 ص 316.
ب- ويتناول فرية الغرانيق فيدحض زيفها ويهدم أركانها. يقول: .. قد يجد الباطل أنصارًا، فيتبوَّأ من نفوسهم دارًا، ويتخذ له منها قرارًا
…
وهو يلعب بأهله وبغلب أهواءهم بحيَلِهِ حتى يقصروا نظرهم عليه، ولا يجدوا ملجأ منه إلا إليه، فإذا أتوا من ناحيته رضوا، وإذا عرض لهم الحق أعرضوا، ولا يزالون كذلك إلى أن تنحل به عراهم، وتفسد بعلله قواهم والحق لا يزال يعرض نفسه، يستخدم مرة لينه وأخرى باسه. وهو الشاب الذي لا يهرم والعامل الصبور الذي لا يسأم وإنما يعرض بوجهه عن الأغبياء
…
ثم لا ينفك يرحمهم .. فإذا واتاهم وقد وهت سننهم
…
صاح بهم صائحٍ، فغلق بالباطل مكانه) (1).
وهي قطعة أدبية نادرة في سياق رد الأباطيل إلى أن يقول: (عصمة الرسل في التبليغ عن الله) أصل من أصول الإسلام، شهد به الكتاب وأيدته السنة، وأجمعت عليه الأمة .. ومع ذلك لم يعدم الباطل في الدين أعوانا، يجملون على هدمه وتوهين ركنه. أولئك عشاق الروايات الباطلة وعبدة النقل. نظروا نظرة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
…
} [الحج: 52]
…
إلخ، ثم يسوق الروايات التي استدل بها على قصة الغرانيق.
وملخص هذه الفرية أن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، كان يتلو سورة (النجم) فلما بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] ألقى الشيطان في قراءته: (وإنها لهي الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لترتجى).
ثم بعد ذلك يظهر زيف هذه الروايات بقوله: (قال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القِصَّة وسندها غير واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة، وكفى في إنكار حديث، أن يقول فيه ابن اسحق إنه من وضع الزنادقة .. وقال القاضي عياض إن هذا
(1) دروس في تفسير القرآن ص 123.
حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه أحد بسند متصل سليم، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب .. وقال الإمام أبو بكر بن العربي
…
إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له).
وبعد أن أبطل هذه القصة بالأدلة النقلية من أقوال الأئمة كما رأينا، أبطلها كذلك من الناحية العقلية. ثم يعقّب على ذلك بقوله: (أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلةً من ثلاث طرق على شرط الصحيح، وأنه يحتج بها الخ ما سبق، فقد ذهب عليه -كما قال في الإبريز- إن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين، فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها، لا يقبل على أي وجه جاء. وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من الأخبار التي يجب القطع بكذبها. هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟ وإنما الخلاف بالاحتجاج بالمرسل، وعدم الاحتجاج به، فيما هو من قبيل الأعمال، وفروع الأحكلام، لا في أصول العقائد، ومعاقد الإيمان بالرسل، وما جاءوا به فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له.
هذا ما قاله الأئمة جزاهم الله خيرًا في بيان فساد هذه القصة، وأنها لا أصل لها، ولا عبرة برأي من خالفهم، فلا يعتد بذكرها في بعض كتب العسير، وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا، وشهرة المبطل في باطله، لا تنفخ القوة في قوله، ولا تحمل على الأخذ برأيه .. ) (1).
ثم يبدأ في تفسير الآيات، فيفسرها تفسيرًا يقوم على وحدة الموضوع أولًا، ومعطيات اللغة ثانيًا، ومسلمات العقل ثالثًا، وبعد ذلك ما يتفق مع مقام الأنبياء جميعًا عليهم السلام. ومن أعماق قلبي، أرجو أن يهيء الله لهذه الأمة، إمامًا ينافح عن كتاب الله كما نافح عنه هذا الإمام. وبودي أن أنقل كل ما كتب، لأن كل كلمة فيه تستحق أن تقدر قدرها، ولكنه يطول. قال رحمه الله:
(1) فصلت هذه القضية تفصيلًا أرجو أن يكون كافيًا في كتابي دائرة المعارف البريطانية نقض ورد.
(لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية، وقرأ شيئًا من القرآن أن قوله قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآيات- يحكي قدرًا قدر للمرسلين كافة، لا يعدونه ولا يقفون دونه، ويصف شنشنة عرفت فيهم وفي اسمهم، فلو صح ما قال أولئك المفسرون، لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته الخ .. وهذا من أقبح ما يتصور متصور، في اختصاص الله تعالى لأنبيائه واختيارهم من خاصة أوليائه فلندع هذا الهذيان ولنعد إلى ما نحن بصدده).
وبعد بيان مستفيض عن صلة الآية بما قبلها وما بعدها، وهو بيان يعين كثيرًا على فهم الآية يقول: (فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعًا، يجب أن نفسر الآية، وذلك يكون على وجهين:
الأول: أن يكون (تمنى) بمعنى قرأ، (والأمنية) بمعنى القراءة، وهو معنى قد يصح، وقد ورد استعمال اللفظ فيه .. غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه، بل على المعنى المفهوم من قولك (ألقيت في حديث فلان) إذا أدخلت فيه ما ربما يحمله لفظه، ولا يكون قد أراده، أو نسبت إليه ما لم يقله، تعللًا بأن ذلك الحديث يؤدي إليه. وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بوساوسه، مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال، يصح أن ينسب إليه، ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي، إلا إذا حدث قومه عن ربه، أو تلا وحيًا أنزل إليه فيه هدى لهم، قام في وجهه مشاغبون، يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه، ويتقولون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس، ليبعدوهم عنه، ويعدلوا بهم عن سبيله، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل. ولا زال الأنبياء يصبرون على ما كذبوا وأوذوا، ويجاهدون في الحق ولا يعتدون بتعجيز المعجزين، ولا بهزء
المستهزئين، إلى أن يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجادلة، فينسخ الله تلك الشبه، ويجتثها من أصولها، ويثبت آياته ويقررها. وقد وضع الله هذه السنة في الناس لتمييز الخبيث من الطيب يفتتن الذين في قلوبهم مرض، وهم ضعفاء العقول، بتلك الشبه والوساوس، فينطلقون وراءها، ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجادلة فيتخذونها سندًا يعتمدون عليها في جدلهم، ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه، فيعلموا أنه الحق من ربك فيصدقوا به، وتطمئن له قلوبهم .. ).
ثم يذكر المعنى الثاني، وملخصه أن التمني على معناه المعروف، وأن الأنبياء كانوا يتمنون اهتداء أقوامهم. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان له المقام الأعلى في ذلك، مما يشهد له آيات القرآن الكثيرة، وأنه ما من رسولا ولا نبي إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ألقى الشيطان في سبيله العثرات، ووسوس في صدور الناس فثاروا في وجهه وصدوه عن قصده. وإلقاء الشيطان فيها، يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم. لكن الله غالب على أمره، فيمحق ما ألقاه الشيطان في قلوب المؤمنين، ويبقى ذلك عز وجل، في قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به (1).
جـ - وكما أبطل الأستاذ الإمام قصة الغرانيق، بهذا البيان الذي لا يدع مجالًا لصاحب ريب، ولا يترك فرصة لذي شبهة، كر على مسألة أخرى، لا تقل في خطورتها عن مسألة الغرانيق، ذلك لأنها تتعلق مباشرة بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حيث عصمته، وعظمة خلقه. وهي من المسائل التي خدع بها بعض الكاتبين قديمًا، وأستغلها الحاقدون على الإسلام حديثًا. ويأبى الله إلا أن يهيء لهذا الدين، من ينفي عنه زيغ الضالين، وضلال المغضوب عليهم.
(1) دروس في تفسير القرآن ص 123 وما بعدها.
وهذه المسألة هي زواجه من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها.
والمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أراد من زواج زيد بزينب، على الرغم من الفوارق البعيدة بينهما، مقاصد نبيلة أهمها: إذابة الفوارق في المجتمع المسلم الجديد. ولكن هذا الزواج لم يكتب له دوام التوفيق، فطلق زيد زينب ونزل في ذلك قرآن، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوجها، وذلك لتقرير حكم شرعي كانت الجاهلية تنفر منه، وهو جواز زواج المتبني مطلقة متبناه. ولكن الذين لا يميزون بين صحيح الروايات وسقيمها، اختلط عليهم الأمر فنقلوا روايات تخل بعصمته عليه وآله الصلاة والسلام. وقد بين الأئمة زيفها كما رأينا في تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله وأبي بكر بن العربي رحمه الله، صاحب أحكام القرآن، الذي نقل عنه الإمام كثيرًا مما كتبه، وقد أعجب بما كتب. ويستغل أعداء الإسلام مثل هذه الفرية ليشوهوا بها جمال هذا الدين ونبيه. ولا نجد دينًا كالإسلام، وكتابًا كالقرآن، وشخصية كالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حاول المغرضون والموتورون أن يقيموا الحجب بين الناس وشمس هدايتهم وإشراقهم، ولكنه الإسلام تتحطم على صخرته الصلبة كل المطاعن والشبه والدسائس. ولقد أحسن الشاعر محمود غنيم في قوله:
هي الحنيفة عين الله تكلؤها
…
فكلما حاولوا تشويهها شاهوا
يقول الأستاذ الإمام: (ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم، لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في رواثه ونضرة جدته، وقد كان يراها، وليس بينه وبينها حجاب، ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة، ولكلنه لم يرغبها لنفسه، ورغبها لمولاه. فكيف يمتد نظره إليها، ويصيب قلبه سهم حبها، بعد أن صارت زوجة لعبد من عبيده، أنعم عليه بالعتق والحرية)(1). وبعد كلام كثير حول تفسير الآية ورد الشبهات يقول: (أما والله لولا ما أدخله الضعفاء أو المدلسون من مثل هذه الرواية، ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة، شيء مما يرمون إليه، فإن نص
(1) دروس من القرآن الكريم، ص 144.