الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفاسير الدعوية
ابن باديس ومنهجه في التفسير
حياته:
ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في سنة 1308 هـ، في ليلة الجمعة الموافق للرابع من شهر ديسمبر سنة 1889 م في مدينة قسنطينة، ولد من أسرة شهيرة بالعلم والمال والسلطة، فقد كان والده من حملة القرآن الكريم، ومن أعيان مدينة قسنطينة، حيث كان عضوًا بالمجلس الجزائري الأعلى، والمجلس العمالي لعمالة قسنطينة نائبًا عن المدينة.
وأمه زهيرة بنت علي بن جلول من أسرة مشهورة كذلك بالعلم والجاه والثراء، وشهرة أسرته لم تكن على مستوى الجزائر فحسب، بل امتدت لتشمل المغرب العربي، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ المغرب سياسيًا وعلميًا ودينيًا، منذ القرن الرابع الهجري وتولى أفراد منها السلطة (1).
حفظ القرآن الكريم في صغره على يد الشيخ محمد المداسي، ولم يتجاوز الثالثة عشرة، وقد نال إعجاب أستاذه لسيرته الطيبة وفطنته، وقدمه ليصلي بالناس صلاة التراويح ثلاث سنوات متتابعة في الجامع الكبير.
وتعلم مباديء العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ حمدان لونيس عام 1903 م، وزوجه والده عام 1904، حيث أنجب ولدًا سماه عبده إسماعيل، ولهذا التسمية دلالة على تأثره منذ تعلمه بالإمام محمد عبده.
وفي عام 1908 انتقل إلى تونس ليتلقى تعليمه العالي في جامع الزيتونة وحصل
(1) ابن باديس حياته وآثاره/ د. عمار الطالبي - دار الغرب الإسلامي بيروت ص 72.
على شهادة التطويع أي العالمية سنة 1912 م.
تلقى العلم على يد مشايخ وعلماء كثيرين منهم الشيخ محمد المداسي، والشيخ أحمد أبو حمدان لونيس، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي كان له تأثير كبير في تكوين شخصيته العلمية، والأستاذ بشير صفر السياسي المؤرخ التونسي. وقد تأثر بمشايخ لم يتلق عنهم مباشرة منهم: الطاهر الجزائري حيث كتب عنه "هو الذي ربّى عقلي، وهو الذي حبب لي هذا الاتجاه الفكري"، والشيخ محمد عبده الذي تأثر بأفكاره وآرائه الإصلاحية عن طريق مجلة المنار، حيث كانت له مراسلات مع صاحبها الشيخ رشيد رضا، ومنهم الإمام أبو بكر بن العربي حيث قام الشيخ ابن باديس بطبع كتابه "العواصم من القواصم" بعد عودته إلى الجزائر، وقدم له بمقدمة هامة.
ومن العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته:
1 -
أساتذته الذين غرسوا فيه خلق العلماء، وتواضع الحلماء، وصفات القادة والمصلحين.
2 -
أسرته وبيئته.
3 -
تأثره بالحركة الإصلاحية للأفغاني ومحمد عبده، حيث اقتفى أثرهما وسلك طريق الشيخ محمد عبده في التربية والتعليم والإصلاح الديني واللغوي، وأعجب بحركة المنار والشيخ رشيد رضا.
4 -
تأثر بابن تيمية وسلفيته، وعده المجدد الوحيد والمصلح في شيخوخة الفكر الإسلامي.
5 -
تأثر وأثر في زملائه المخلصين العاملين معه أمثال: الشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ العربي التبسي والشيخ مبارك الميلي وغيرهم.
6 -
فضلًا على أن نفسه كانت خيره وهمته عالية، وعقله مستنير، وقلمه سيال،
ومعلوماته وفيرة ومنظمة، وبديهته حاضرة وذكاؤه وقاد (1).
وقد كان كما يقول الأستاذ توفيق عنه عاصفة في الحق لا تهدأ، إلا إذا انتصر العدل، وفي الخير نغمة لا تسكن، إلا إذا تنفس الإحسان، وهو مدرس ماهر لا يكل ولا يمل، حيث كان يقضي يومه في إعطاء الدروس، وهو كاتب ممتع، وسلفي النزعة في كنابته، ومؤدب في كتاباته، قليل السخرية بالأعداء والممالين. ولكن قلمه فهيم أمضى من السنان، أسلوبه من السهل الممتنع.
له بصر بالأدب وباع في اللغة وفقهها، محب للأدب القديم والحديث، يرتجل الشعر على البديهة، ولكن شعره أقل جودة بكثير من نثره (2).
وهو فقيه من الطراز الأول خبير بمذهب مالك، ومتفقه على غيره من المذاهب، ويمقت التعصب لمذهب واحد، وهو محدث بصير، شرح موطأ مالك رضي الله عنه كله، ولم يبق من هذا الشرح إلا ما جمعناه في كتاب بعنوان "من هدي النبوة"(3).
سافر إلى المدينة المنورة حيث ألقى بعض الدروس في المسجد النبوي، والتقى هناك بكثير من العلماء والمفكرين، وتعرف على الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وقد ربطت بينه وبين الشيخ الإبراهيمي روابط متينة كانت بركة على الجزائر وحركة الإصلاح فيها.
التقى بالشيخ بخيت زميل الشيخ محمد عبده الذي منحه إجازة بخط يده.
يقول عنه الدكتور عمار طالبي: إن شخصية الأستاذ عبد الحميد بن باديس غنية ومعبرة عن أزمة المجتمع الإسلامي، لا تماثلها إلا شخصية جمال الدين الأفغاني في إثرائها وشمولها وجرأتها وتعبيرها عن جميع جوانب المشكلات الاجتماعية
(1) كتبه الأستاذ توفيق محمد شاهين/ مطبوع آخر تفسير ابن باديس، ص 707.
(2)
ص 708.
(3)
ص 709.
والأخلاقية والدينية والعلمية والسياسية التي يتخبط فيها العالم الإسلامي (1).
كان الشيخ رحمه الله يقضي يومه بإلقاء الدروس من بعد صلاة الفجر حتى صلاة العشاء، وأكثر ما اشتهر به درس التفسير الذي كان يلقيه بعد صلاة المغرب حتى صلاة العشاء، وبعد صلاة العشاء يدخل حجرته في المسجد ليأتيه الناس للفتوى ولحل بعض مشكلاتهم.
استمر في دروس التفسير إلى أن ختم القرآن تفسيرًا ودراسة في خمس وعشرين سنة، يقول الشيخ الإبراهيمي:"أتم الله نعمته على القطر الجزائري بختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس لتفسير الكتاب الكريم درسًا على الطريقة السلفية، وكان إكماله إياه على هذه الطريقة في خمس وعشرين سنة متواليات مفخرة لهذا القطر" وقد احتلفت قسنطينة احتفالًا عظيمًا بهذه المناسبة، وأقبلت الوفود من كل جهات القطر لتحضر درس ختم التفسير وحفل التكريم.
ومع أن الشيخ قد ختم تفسير القرآن العظيم تدريسًا، إلا أنه لم ينشر له إلا القليل من التفسير، فقد كان يفسر في مجلة الشهاب عام 1925 على شكل افتتاحيات تحت عنوان "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير"، "ثم أعيد نشر هذا التفسير مع إضافات من قبل محمد الصالح رمضان، وتوفيق محمد شاهين عام 1964، ثم طبع مرة أخرى سنة 1971 م بعد أن زيدت عليه شروحات وتعليقات تتعلق بحياته ونشأته وآراء بعض الباحثين فيه.
يقول الدكتور عماد محمود عبد الكريم "كان رحمه الله يعطي أكثر من عشرة دروس يومية، وفي أغلب الأحيان كان ينتقل بين البلدان مفتشًا في مدارس الجمعية مشرفًا على نظام السير فيها، وحضر مرة الشيخ ابن باديس افتتاح مدرسة في نواحي بسكرا، في جنوب الجزائر، وقامت طفلة تدعى "ثومة"، ترحب به، فقالت: "أحييك يا ابن باديس بلغة القرآن، وبلغة الأدباء والأجداد، وأعاهدك باسم كل
(1) ابن باديس حياته وآثاره 1/ 90.
زميلاتي وزملائي على استعمالها وتعليمها حتى تعود العربية لغة البلاد" فتأثر الشيخ تأثرًا واضحًا وقام قائلًا: "إني دخلت هذه البلاد ولم يكن فيها من يحترم هذه اللغة، دخلت الجزائر واللغة العربية فيها مجهولة مهجورة، فكافحت طويلًا وتألمت كثيرًا لأعيد اللغة العربية إلى الجزائر العربية، ولو لم يكن من جزاء لي إلا ما قالته ثومة لكفى" (1).
ويقول كذلك صديقه العلامة محمد البشير الإبراهيمي: "كان للأخ الصديق عبد الحميد بن باديس رحمه الله ذوقًا خاصًّا في فهم القرآن، كأنه حاسة زائدة خُصّ بها، يرفُده بعد الذكاء المشرف، والقريحة الوقادة، والبصيرة النافذة، بيان ناصح وإطلاع واسع، وذرع فسيح في العلوم النفسية والكونية، وباع مديد في علم الاجتماع، ورأي سديد في عوارضه وأمراضه.
يمدّ ذلك كله شجاعة في الرأي، وشجاعة في القول، لم يُرزقها إلا الأفذاد المعدودون في البشر.
وله في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم، والإصلاح والتربية والتعليم، وهو أنه لا فلاح للمسلمين إلا بالرجوع إلى هدايته، والاستقامة على طريقته، وهو رأي الهداة المصلحين فيه.
وكان يرى - حين تصدى لتفسير القرآن - أن تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم، لذلك آثر البدء بتفسيره درسًا تسمعه الجماهير، فتتعجل من الاهتداء به ما يتعجّله المريض المنهك من الدواء وما يتعجله المسافر من الزاد.
وكان رحمه الله يستطيع أن يجمع بين الجنسين، لولا أنه كان مشغولًا مع ذلك بتعليم جيل، وتربية أمة، ومكافحة أمية، ومعالجة أمراض اجتماعية، ومصارعة استعمار يؤيدها.
(1) حسن البنا ومنهجه في تفسير القرآن الكريم ص 81.