الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعركة، ويجاهدون به جهادًا كبيرًا .... إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ومن ثم يتذوقونه ويدركونه لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابًا مباشرًا به كما خوطبَتْ به الجماعة المسلمة الأولى فتذوقته وأدركته وتحركت به
…
والحمد لله في الأولى والآخرة.
ولقد آثرت أن أنقل هذا الكلام مع ما فيه من طول، لأنه يلقي ضوءًا على منهج الرجل، وأحاسيسه التي يكتب بها، ونظرته إلى أبعاد النص القرآني وموضوعيته من جهة؛ لأنه يركز عليه في مواضع كثيرة تشغل حيزًا ضخمًا من كتابه من جهة أخرى، وبذلك أكتفي بما نقلته في هذا الموضع عن المواضع الأخرى.
2 - العقيدة في إطارها الخاص:
المتتبع لما كتبه سيد في ظلال القرآن سواء كان في تفسير الآيات أم في ما يقدمه لسور القرآن، يدرك طبيعة الواقع الذي كان يعيشه هذا الرجل، وطبيعة الفكر الذي كان يحمله، وطبيعة الدين الذي تفاعل معه، وهذا هو الذي يهمنا، إن الاهتمام بشأن العقيدة وما ينبغي أن يحوطها من سياج، وما يدبر لها من مكائد، وما ينبعي أن يكون لها من نتائج، وما هي الصورة التي يجب أن تعرض فيه، وما هو المنهج الذي ينبغي أن يسار عليه لبنائها وترسيخها، كل ذلك نجد له خطوطًا عريضة في ثنايا الظلال مما يجعلنا نوقن بأن غاية الغايات عند الكاتب كانت إبراز هذا المنهج القرآني، وبيان طبيعة الحركية للمسلمين، بيانًا فيه قوة اليقين وسلامة المنطق مع عوامل الدفع القيادية، وسأحاول هنا أن أُلمَّ ببعض نواحي هذا الموضوع موجزًا ما استطعت لعلي بذلك ألقي ضوءًا على الكتاب ومنهج الكاتب.
لقد عالج الأستاذ سيد هذا الموضوع في أمكنة كثيرة من كتابه، فها هو في مقدمة سورة الأنعام يسهب وهو يتحدث عن ذلك فيقول:
(لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجود هذا الكون من حوله
…
كان يقول له (من هو؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ من ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟ .، . من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا الذي يدبره ومن ذا يحوزه؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ وكان يقول له ذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع الكون أيضًا وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد .. ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان
…
وأصحاب الدعوة إلى دين الله
…
خليقون أن يقفوا طويلًا أمام هذه الظاهرة الكبيرة .. لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوةُ لها منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة بدعوة الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن يمضي في دعوته يعرّفُ الناسَ بربهم الحق، ويعبدهم له دون سواه.
ولم تكن هذه في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب- هي أيسر السبل إلى قلوب العَرب؟ فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى إله ومعنى لا إله إلا الله
…
كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله سبحانه بها معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده إلى الله
…
ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام.
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناد
…
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين
…
كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة
…
ولو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة لاستجابت له
العرب قاطبة -على الأرجح- بدلًا من أن يعاني ثلاثة عشر عامًا في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة؟
…
وأن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد .. ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله
…
لماذا؟ إن الله لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه إنما هو سبحانه يعلم أن ليس هذا هو الطريق
…
ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي
…
إلى يد طاغوت عربي
…
فالطاغوت كله طاغوت!
…
إن الأرض لله ويجب أن تخلص لله، ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية لا إله إلا الله. . .) (1).
ويمضي بعد ذلك صاحب الظلال فيبين عدم إمكان إثارة الدعوة على أسس اقتصادية تستهدف العدالة في توقيع الثروات وإنصاف الفقراء أو على أسس اجتماعية تحارب الدنس والمفاسد لأن الله سبحانه وهو العليم الحكيم يعلم أن ليس هذا هو الطريق وإنما العقيدة أولًا لا بد من أن تستقر في النفوس، وحينذاك تتحقق تلك الأهداف كلها وهذا الذي قد كان، ويتابع القول:
(ولقد تم هذا كله لأنا الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام
…
كانوا قد أقاموا هذا الدين (2) من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدًا واحدًا لا يدخل فيه الغلب والسلطان
…
ولا حتى نصرًا لهذا الدين على أيديهم (3)
…
وعدًا واحدًا
(1) الظلال 7/ 78.
(2)
2/ 1008.
(3)
لسنا مع الأستاذ سيد فيما ذهب إليه من أن المؤمنين الأولين لم يعدهم الله بالنصر والتمكين في الدنيا وإنما وعدوا الجنة فقط، وإن حديثه في ذلك تعوزه الدقة والموضوعية والنصوص الكثيرة تؤيد ما أقول ففي القرآن في سورة الروم {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] وفي سورة غافر {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] وهما سورتان مكيتان باتفاق والآيتان كذلك فيهما دون ريب، هذا في القرآن أما السنة المطهرة ففيها النصوص=
هو الجنة
…
فلما ابتلاهم الله فصبروا، ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم، ولما أن علم الله أنهم لا يحظرون جزاء في هذه الأرض كائنًا ما كان هذا الجزاء، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ولا اعتزاز بوطن ولا أرض لما أن علم الله منهم كله علم أنهم قد أصبحوا أمناء على هذه الأمانة الكبرى) (1).
لأهمية تلك العقيدة فإن القرآن المكي ظلَّ طوال ثلاث عشرة سنة لا يقرر شيئًا من التشريعات والتنظيمات وإنما كان التركيز على مسائل العقيدة وحدها، يقول الأستاذ سيد:
(إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا
…
فهو ديِن يقوم كلُّه على قاعدة الألوهية الواحدة
…
كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير
…
وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان الضاربة في الهواء
…
لا بد أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة وفي مساحات واسعة تناسب خامتها وامتدادها
…
فكذلك هذا الدين، إن نظامه يتناول الحياة كلها
…
ولا بد له إذن من جذور عميقة بهذه السعة والخامة والعمق والانتشار أيضًا
…
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته يحدد منهجه في بناء
= الكثيرة التي تؤيد ما ذهبنا إليه، وكذلك حينما اجتمع النفر من قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم بوساطة أبي طالب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أريد منكم كلمة واحدة، قالوا: نقول عشر كلمات، فيقول: قولوا كلمة واحدة، كلمة لا إله إلا الله فإذا قلتموها دانت لكم العرب وأدت لكم العجم الجزية أو كما قال. رواه الترمذي في باب التفسير، وهذا صهيب -كما أخرج الإمام أحمد وغيره واللفظ لأحمد في مسنده ص 109 - يقول:(أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظل الكبة متوسدًا بردة فقلنا يا رسول الله: ادع الله تعالى لنا واستنصره، قال: فاحمر لونه أو تغير فقال: لقد كان من قبلكم يحفر له حفرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق ما يصرفه عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم من لحم أو عصب ما يردّه عن دينه وليتمن الله تبارك وتعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضر موت لا يخشى إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون).
(1)
(7/ 80).
نفسه وامتداده ويجعل بناء العقيدة وتمكينها
…
ضرورة من ضروريات النشأة الصحيحة
…
ومتى استقرت عقيدة لا إله إلا الله في أعماقها الغائرة البعيدة استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه لا إله إلا الله
…
حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته .. ) (1).
وهذه العقيدة ليست نظرية مجردة كنظريات الفلاسفة وإنما ينبغي أن تتفاعل مع واقع الحياة وحركتها، وأن يتفاعل معها المجتمع المسلم، ولهذا فهو ينعى على الذين يريدون أن يصوغوا الإسلام في قوالب من النظم والمواد؛ لأن هذا في رأيه لن يؤدي إلى نتائج مرضية بل فيه كبير خطأ وخطر، فلا بد قبل ذلك كله من إيجاد القاعدة لهذه العقيدة، وهذه القاعدة لن تكون سوى المجتمع المتأثر والمتكيف بما يلزمه به هذا الدين، وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي، كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية وما يسهل له ذلك يسر العرض الذي عرضت به العقيدة، إذ إنها لم تعرض في صورة نظرية أو لاهوت أو جدل كلامي، وإنما خوطبت بها فطرة الإنسان مباشرة لاستنقاذها من الركام وتخليص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران وعطل وظائفها، ولقد كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يحوز بهذه الجماعة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها كما يخوض معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها
…
ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة لا في صورة نظرية لاهوت ولا في صورة جدل كلامي، ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة، ومما ساعد على تثبيت العقيدة في النفوس وترشيخها في قلوب المؤمنين أنهم لم يتلقوها دفعة واحدة، ولم يتم بناؤها في نفوسهم طفرة، وإنما كانت في التؤدة مما جعل نموها طبيعيًا يتمشى مع النمو الحركي والواقعي للمسلمين، يقول الأستاذ سيد: (وكل نمو نظري ليس النمو الحركي الواقعي ولا يتمثل من خلاله هو خطأ وخطر، كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين وغايته
(1)(2/ 1009).