الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} قد علمنا أن الصفة الجامعة بين هذه السورة وبين التي قبلها (هي المعوذتان). وعلمنا أنها تسمية نبوية، وقد جرت هذه الصفة مجرى الاسم لهما.
أما الاسم الخاص بهذه السورة فهو (الناس) كما أن الاسم الخاص بالسورة الأولى: (الفلق).
والمناسبة بين السورتين يرشد إليها اشتراكهما في الوصف، وهو التعوذ بهما من الشرور المذكورة فيهما، وفي السورة الأولى الاستعاذة من الشر العام، ومن ثلاثة أنواع منه ذكرنا الحكمة في تخصيصها بالذكر (1). وفي هذه السورة الاستعاذة من شر واحد لكنه سبب في شرور كثيرة.
النفوس الشريرة:
المناسبة:
والمناسبة القريبة بين السورتين هي أن النفوس الشريرة ثلاثة أقسام:
1 -
قسم يصدر عنه الضرر ويعمله.
2 -
وقسم لا يريد الخير فيسعى في سلبه وانتزاعه، وهو شر من الأول.
(1) أي شر ما خلق، وشر الغاسق، والنفث، والحسد.
3 -
وقسم يعمل إلى إيصال الشر إلى سلطان الجوارح، ومالك هديها (1)، وهو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
فهو يحسن له الأشياء القبيحة ويأتيه من جميع النواحي على وجه النصح، وإرادة الخير.
ويزين للإنسان كل ما يرد به من القبائح، ويأتيه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله قريبًا منه متصلًا بهواه، وهذا القسم الأخير هو الذي يوسوس بكلمة السوء مزينة الظاهر مغطاة القبح، حتى تستنزل صاحبها إلى الهلاك.
ولما كان هذا القسم الثالث أعظم خطرًا، وأكثر شرًّا، وأخسر عاقبة، خصص التعوذ منه بسورة كاملة.
المفردات والتراكيب:
(رب الناس) هو مربيهم ومعطيهم في كل مرتبة من مراتب الوجود وما يحتاجون إليه لحفظها، وهاديهم لاستعمال ما من به عليهم فيما ينفعهم:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
وأصله من ربه يربه ربا إذا قام على نشأته، وتعهده في جميع أطواره إلى التمام والكمال، ولفظه لفظ المصدر، ولكن معناه اسم الفاعل: كالعدل يراد به العادل.
(ومالك الناس) هو الذي يملك أمر موتهم وحياتهم، ويشرع لهم من الدين ومن الأحكام ما يوافق حياتهم الدنيوية والأخروية.
(وإله الناس) هو الذي يدينون له بالعبادة والعبودية.
وبلاغة الترتيب، إنما تظهر جلية عند استعراض أطوار الوجود الإنساني.
فالأول: طور التربية، والإعداد وهما من مظاهر الربوبية.
والثاني: طور القوة والتدبير وهما من مظاهر الملك.
(1) من لطائف الإمام في التسمية والوصف للقلب.
والثالث: طور الكمال والقيام بوظائف العبودية، وهو من مظاهر الألوهية (1).
المستعاذ منه:
المستعاذ منه تارة يوسوس للإنسان بما يفسد عليه صلته بربه، وتارة بما يفسد عليه تدبيره وما شرع له لمنفعته وصلاحه. وتارة بما يفسد عليه عبوديته له وهي أشرف علائقه به وأقوى صلاته.
وجماع ذلك أن يبعده عن الله بالوسوسة بواحدة من هذه أو بكلها، وبما يتفرع عنها مما تضمنته الآيات المبينة لأفعال أصل هذه القوة الموسوسة.
مثل قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].
أو لذلك الشأن الجاري مجرى الحوار بين إبليس وبين خالقه، كقوله تعالى:{قَال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82].
وكقوله تعالى: {قَال أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].
وكقوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119].
فهو جاهد في أن يبعد الناس عن الله؛ بإفساد العقيدة الصحيحة فيه أو بالصرف عن شرع الله، أو بالحمل على عبادة غيره، فلذلك كله جاء الترتيب على هذا النمط المذكور بتلك العلائق القوية التي يريد الشيطان أن يقطعها.
تخصيص الناس بالذكر:
(والرب) رب الناس وغيرهم، بل رب العالمين وإنما خص الناس بالذكر:
(1) فالإنسان في طوره محتاج لتربية، وفي حياته لمشرع، ولدين يهديه الطريق، ولعل في هذا كفاية في الرد على من ادعى أن في تكرير لفظ الناس ركاكة في الأسلوب، ألا ساء ما يزعمون.
1 -
لأنهم هم هدفه ومرمى وسوسته، ولأنهم هم المأمورون بالاستعاذة منه، ولأن عالم التكليف أشرف، فإليهم يوجه الخطاب، وإليهم يساق التحذير.
وهذه الوسوسة نتيجة للعداوة بين أصليهما؛ فأمر الله بالاستعاذة منها هو تسليح إلهي لبني آدم، لتثبيت سنة التعمير التي هي حكمة الله من وجودهم.
2 -
ونكتة أخرى في تخصيص الناس بالذكر دون بقية أفراد المربوبين، وهي أنهم هم الذين ينطبق عليهم ناموس الهداية والضلال.
وقد ضلوا بالفعل في ربوبية الله وفي ألوهيته:
ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين، ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ويصدونهم بذلك عما شرع الله.
وضلوا في الألوهية بعبادة غير الله بما لا يعبد به أحد غيره كالدعاء.
اختيار لفظ الناس:
واختير لفظ الناس، من بين الألفاظ المشاركة له في الدلالة كالبشر والبرية، لأنه ينوس ويضطرب وينساق. وهي صفات يلزمها التوجه، ويسهل التوجيه، فلا غنى لصاحبها عن توفيق الله للوجهة الصالحة، والتسديد فيها، ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسبًا عليه، وما دامت هناك قوة مسلطة تنزع به إلى الشر.
ففي تخصيص الناس بالذكر، تنبيه إلى أنهم أحوج المربوبين إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه - وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.
في اللفظ ضعفهم:
ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه، لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جنة من استعباد الأقوياء.
ويجوز - إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها - أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل، والأخيار، منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب: فإنهم كثيرًا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد، أو الأفراد الكاملين في حقيقته. وإن كان هذا من المجاز في كلامهم وقد حملوا على هذا المعنى، قوله تعالى:{آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} .
تكرير اللفظ:
ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس توضيح المعنى، وإلفات النفس إليه، وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربًا هو مالكهم وإلههم.
من شر الوسواس:
(الوسواس) هنا صفة الموسوس، وإن خالف المعهود في أبنية الصفات أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزالزال والزلزلة.
وأصل هذه الكلمة دائر على معنى الخفاء (1) والعرب تسمي حركة الحلى وسواسًا وهذا المعنى واضح في المراد هنا: فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الأنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكم الحيلة في ذلك، ولا يرمي رميته إلا في الخلوات.
وإن الناس ليعرفون عرفانًا ضروريًا من الفرق بين المصلحين والمفسدين: أن الأولين يصدعون بكلمة الحق مجلجلة، ويرسلون صيحته داوية، ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق.
(1) من دوران اللفظ حول المعنى، والشيخ خصّ "بفقه اللغة" وهو علم جدير بالاعتناء والدراسة لأصول اللغة العربية.
وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا، ويستترون إذا فعلوا، ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية، ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.
الخناس:
(الخناس) وصف مبالغة في الخانس من الخنوس، وهو التأخر بعد التقدم، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس: أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقًا في الكيد، وتقصيًا في التطور، حتى يبلغ مراده.
فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرًا وفرًا، وهجومًا وانتهازًا. واستطرادًا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه:
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17].
يرشدنا بذلك لنعد لكل حالة من حالاته عدتها، ولنضيق عليه المسالك التي يسلكها.
كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد، لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب: تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية، ثم دواليك حتى تمل أو يمل.
الخناس ضعيف:
وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد، فهو مبالغة في التحذير منه؛ لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.
الوسوسة ومحلها:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} .
قال: يوسوس بالمضارع إشعارًا بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها.
وقال: (في صدور الناس). والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستودع القوى التي كان الإنسان إنسانًا بها، ومجموع المضغ التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال:
{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
الصدر ليس ماديًا فقط:
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفردًا وجمعًا والحكم عليها بالشرح، والحرج، والضيق، والشفاء، والإخفاء، والإكنان - ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية، ولا أجزاءها المادية، وإنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس، يوجه كيده ووسوسته دائمًا إلى هذه القلعة التي هي الصدر؛ لأنها مجمع القوى.
وقال: (في صدور الناس)، ولم يقل في قلوب الناس؛ لأن القلب مجلى العقل، ومقر الإيمان (1) وقد يكون محصنًا بالإيمان، فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقبًا.
{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} :
الجن:
(الجنة) جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس، لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين (2).
واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون، في قوله
(1) وليس المراد بالقلب أيضًا هذه المضغة المادية، وإنما ما يسميه علماء النفس بمنطقة ما وراء الحس والشعور.
(2)
لقوله تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الآية: 14] أي العادلون عن الإسلام إلى غيره.
تعالى: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} .
ولما كان الموسوسون فريقين (1) متعاونين على الشر، ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذ من شر الوسوسة، ليلتئم طرفا الكلام، ويحصل التقصي الوصفي المستعاذ به والمستعاذ منه.
أقسام الشياطين:
وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة إلى قسمين:
شياطين الإنس، وشياطين الجن. وذكر بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول. وشيطان الجن ميسر للشر. فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطين الإنس بطانة السوء، وقرين السوء.
القرين:
وورد في الآثار أن لكل إنسان قرينًا من الجن. وقال تعالى:
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت: 25]. وهو من باب توزيع الجمع على الجمع: أي لكل واحد قرين.
النجاة من القرناء:
فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن، ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس، يزينون له ما بين يديه وما خلفه، ويصدونه عن ذكر الله.
فماذا يصنع؟
ما عليه إلا أن يلجتيء إلى الله، ويستعيذ به ويتذكر، فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ، وإنما يؤخذ إذا كان غافلًا، قال تعالى:
(1) الجنة والناس.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
دقائق بلاغية:
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة، أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى، لسر آخر: فيقدم السماء على الأرض في مقام، ويؤخرها عليها في مقام آخر.
ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن، في آية الأنعام، لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء، وهي من الإنس أظهر، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح.
شياطين الإنس أخطر:
وفي آية "الناس" قدم الجنة على الناس، لأن الحديث عن الوسوسة، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر: فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد، فيربى عليه ويكون شرًّا منه، لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي، ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولد منها فتن، ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل.
الإنسان يعلو أو يتسفل:
وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفل كان شرًّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى، وأوشك أن يكون خيرًا محضًا، لولا أن العصمة لم تكتب إلا لطائفة منه، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.