الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ نوافقه في بعض ما ذهب إليه كإنكاره أن يكون الرزق الذي وجده زكريا عند مريم عليها السلام، فاكهة الشتاء في الصيف أو الصيف في الشتاء، نحن معه في هذا، لأنه ليس عندنا نص صحيح فيه من كتاب أو سنّة، ولكننا لا نتفق معه فيما ذهب إليه من تأويل نصوص لا يُمارى فيها وسأذكر هنا بعض الأمثلة:
1 - خلق عيسى عليه السلام ومعجزاته:
يقول في تفسيره لقول الله عز وجل: {قَال كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]، ونحن معاشر المؤمين نقول: إن تلك الأشياء المعبر عنها بالفلتات، إما أن يكون لها سبب خفي، وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجاحدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة، فلا ينكروا كل ما يخالفها، لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، لا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك، وإما أن تكون قد وجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب. ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته، متفقين على إمكان التولد الذاتي، أي تولد الحيوان من غير حيوان أو في الجماد، وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزًا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز، وأقرب إلى الحصول، نعم إنه خلاف الأصول، وإن كونه جائزًا لا يقتضي وقوعه بالفعل، ونحن نستدل على وقوعه بالفعل، بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه.
ويمكن تقريب هذه الآية الإلهية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:
- الأول: أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب، ويستحوذ على المجموع العصبي يحدث في عالم المادة من الآثار، ما يكون خلاف المعتاد. فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا، وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض، فولد له اعتقاده الجراثيم الحية، وصار مريضًا، وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه، فشربه معتقدًا أنه سم ناقع فمات مسمومًا به. والحوادث
في هذا الباب كثيرة، أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول إن مريم لما بشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدًا بمحض قدرته، وهي ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين، انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالًا، فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ. وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متممًا لهذا التأثير.
- الثاني: وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق:
ويقدم لهذا الوجه مقدمة ملخصها أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيفة تؤثر في الكثيفة. ويمثل للطيفة بالريح والكهرباء والماء، وهذه أرواح تفعل الأعاجيب، مع أنها غير مدركة ولا مريدة فكيف بالأرواح العاقلة المريدة. فلا شك أنها أعظم أثرًا، ثم يقول:(إن الله المسخّر للأرواح المنبثقة في الكائنات، قد أرسل روحًا من عنده إلى مريم فتمثل لها بشرًا، ونفخ فيها فأحدثت النفخة التلقيح في رحمها، فحملت بعيسى عليه السلام، وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله أعلم)(1).
ويقول عند تفسير قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
(نقف عند لفظة الآية، وغاية ما يفهم منها أن الله تعالى، جعل فيه هذا السر، ولكن لم يقل إنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئًا من ذلك وقع. وقد جرت سنّة الله تعالى، أن تجري الآيات على أيدي الأنبياء، عند طلب قومهم لها، وجعل الإيمان موقوفًا عليها، فإن كانوا سألوه شيئًا من ذلك فقد جاء به. وكذلك يقال في قوله:{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49]. فإن قصارى ما تدل عليه العبارة، أنه
(1) المنار جـ 3 ص 310.
خصّ بذلك وأمر بأن يحتج به، والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم. وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل، فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك) (1).
وأول ما يلفت النظر في أقوال الأستاذ رحمه الله، قوله بأن علماء الغرب يحاولون التوليد الذاتي. فلقد كان يحسن الظن بنظرياتهم، ولعل له عذره في ذلك (2)، أما ما لا يعذر فيه، فهو محاولته تفسير ولادة عيسى تفسيرًا علميًّا، وإخضاع هذه المعجزة لمقياس العقل ومنطق الحس، وكان في غنى عن ذلك كله، فلقد كان مولد عيسى صفعة للمادية والماديين. ومريم عليها السلام نفسها، قد أبدت العجب والدهشة من مثل هذا الأمر، لولا أن قيل لها:{قَال رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]، إذا كان الأمر كذلك فلم نجهد أنفسنا في هذه التأويلات التي لا طائل تحتها، والتي لا تثبت أمام العلم الذي أردنا أن نستند إليه في مثل هذه الأمور؟ وكان حريًا بالأستاذ أن يقف عند قوله تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} [آل عمران: 59، 60]. ولا داعي لهذين الوجهين في تأويل الآية، وكان من الخير له أن يكتفي بوجه واحد، وهو أن خلق عيسى معجزة.
بقي هنا أن يقال: هل خرجت إلى حيز الوجود تلك المعجزات التي أيد الله بها عيسى عليه السلام؟ ولقد كنت أوثر عدم الخوض في هذه المسألة، لأنها لا يندرج تحتها فائدة ما، ولكن مفسرنا رحمه الله، مع أن من منهجه عدم الخوض في مثل هذه الأمور، خرج هنا عما رسم لنفسه، وقرر أنه ليس هناك نص يفيد حدوث هذه المعجزات بالفعل، مع أن مجرد ذكر هذه المعجزات في أكثر من موضع، دليل
(1) المنار جـ 3 ص 311.
(2)
إن نظرية التولد الذاتي ثبت بطلانها بعد التجارب التي قام بها بستير الفرنسي وذلك قبل زمن الأستاذ الإمام.