الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي ما علم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أجمع عليه من كيفياتها وفروضها، فإن أدلتها وأعمالها متواترة. وتلقينها مع ما ورد في فوائدها من الآيات والهدي النبوي، يجعل المسلم على بصيرة فيها، وفقه يبحث على العمل ولا أسهل منه.
ومنها فروع دقيقة مستنبطة من أحاديث غير متواترة، لم يطلع عليها جميع المسلمين. وقد مضت سنة السلف الصالح في مثلها، بان من بلغه حديث منها، بطريق يعتقد به ثبوته عمل به. ولم يوجبوا على أحد، ولو منقطعًا لتحصيل العلم، أن يبحث عن جميع ما روي من هذه الآحاد ويعمل بها
…
فمثل هذه الفروع يعذر العاصي بجهلها بالأولى، ويجب عليه التحري في قبول ما يبلغه منها، فلا يقبل رواية كل أحد، ولا يسلم كل ما في الكتب لكثرة الموضوعات والضعاف فيها .. فتبين مما شرحناه أنه لا عذر لأحد في التقليد المحض) (1). وهذا النص يعد آية ظاهرة في بيان موقف الأستاذ الإمام من التعصب المذهبي والتقليد، وجميع آرائه في هذا الباب تفهم في ضوء هذا النص.
موازنة تستحق التقدير:
ابتلي المسلمون بخلافات جانبية كثيرة، واحتدم بينهم الجدل وقوي النزاع حول مسائل فرعية، وشكليات هي أقرب إلى القشور منها إلى اللباب. والذي يحز في النفس، ويصيب القلب بسهام الألم، أن هذه الخلافات وذلك النزاع، يعيشه المسلمون، وأعداؤهم يتربصون بهم من كل جانب، ويبيتون لهم كل عظيمة سوءًا وغدرًا.
ومن أقوى الأمثلة على هذه الخلافات ما رأيناه بين المتسلفة والمتصوفة من جهة، وبينهم وبين أصحاب المذاهب من جهة أخرى، لقد عشت هذا الخلاف كما عاشه كثيرون غيري في مصر، وليست مصر وحدها. فهذه بلاد الشام وكثير من
(1) المنار جـ 2 ص 81 - 84.
بلاد العالم الإسلامي تعيش هذا الخلاف، والتفرق منذ أمد بعيد. والمضحك المبكي أن الذين يقومون على هذا الخلاف، ويغذونه هم من أساتذة التوجيه الإسلامي، الذين يوجه المسلمون إليهم أنظارهم، ينتظرون منهم الخير. حتى لقد وصل الخلاف إلى مستوى الكتب تؤلف للجدل والتراشق بالتهم، بل إلى مستوى الأشرطة وجميع وسائل الاتصال الفكري المعاصر، حتى إنهم قد نقلوا هذا الخلاف إلى بلاد الغرب ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد حاولت جاهدًا يومًا، وتجشمت المشاق لإقناع زعماء كل من الفئتين، بأن ينبذوا ذلك ظهريًا، أو أن يتناسوه على الأقلّ، وأن يوجهوا نشاطهم لما فيه الخير لهذه الأمة، التي تفرقت شملًا، وتصدعت بنيانًا، ولكن عبثًا يحاول المحاولون. قال لي أحدهم لقد حاكمت الغزالي غيابيًا. قال: ولكنه خفف الحكم عليه، واكتفى بتجريده من لقب حجة الإسلام! ومقابل هذا طلع علينا أحد أساتذة كلية الشريعة في جامعة دمشق بكتاب عنوانه (اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الدين الإسلامي)، وكتاب آخر اسمه (باطن الإثم) جنّد فيهما جهده للطعن في كل من لم يتمذهب أو يتصوف.
هذا واقعنا وهو يستحق المعالجة والحكمة، وكان من الممكن أن يجتمع المسلمون على ما اتفقوا عليه، وهو كثير، ويعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه وهو قليل. وأنه بإمكان أي إنسان يريد الخير لأمته، أن يأخذ الحكمة أيًا كان صاحبها، وأن يكون متصوفًا وسلفيًا في الوقت نفسه، ما دامت غاية التصوف تهذيب الروح وغاية السلفية سلامة العقيدة، فهما يلتقيان في طريق واحد، ولكن شريطة أن يُنحَّى الغلو والتطرف جانبًا.
وخير مثال لهذا الطراز من الناس الذبن سلكوا تلك الطريقة الفضلى، مفسرنا رحمه الله، فلقد استطاع أن ينهل من مورد المتصوفة، وأن يرتشف من نمير السلفية، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وإنما هي جداول تلتقي معًا.
لقد استطاع محمد عبده أن يرتفع فوق هذه الخلافات، فأعطى بذلك درسًا
لهؤلاء المتزمتين ينبغي أن يعتبروا به. لقد رأينا كيف تأثر بالسلفية، ونقلت نصوصًا من كلامه، كان فيها واضح المنهج قريبًا من أفهام الناس، وهو مع ذلك كله يوفق بين السلفية والتصوف منصفًا كليهما. ومن الخير أن أقتطف بعض عباراته عن التصوف، ليتبين فيها حسن إدراكه لطبيعة هذا الدين. وهو إدراك يستحق الإعجاب، ويستدعي التقدير، يقول:
(اشتبه على بعض الباحثين، السبب في سقوط المسلمين، في الجهل العميم
…
وظنوا أن التصوف من أعظم الأسباب لسقوط المسلمين في الجهل بدينهم، وبعدهم عن التوحيد، الذي هو أساس عقائدهم، وليس الأمر عندنا كما ظنوا
…
ظهر التصوف في القرون الأولى للإسلام، فكان له شأن كبير، وكان الغرض منه في أول الأمر تهذيب الأخلاق، وترويض النفس بأعمال الدين وجذبها إليه، وجعله وجدانًا لها وتعريفها بأسراره وحكمه بالتدرج. ابتلي الصوفية في أول أمرهم بالفقهاء الذين جمدوا على ظواهر الأحكام المتعلقة بالجوارح، والتعامل، فكان هؤلاء ينكرون عليهم معرفة أسرار الدين، ويرمونهم بالكفر. وكانت الدولة والسلطة للفقهاء لحاجة الأمراء والسلاطين إليهم، فاضطر الصوفية إلى إخفاء أمرهم ووضع الرموز والاصطلاحات الخاصة بهم، وعدم قبول أحد معهم إلا بشروط واختبار طويل .. فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطواره زمنًا طويلًا، ليعلموا أنه صحيح الإرادة صادق العزيمة، لا يقصد مجرد الاطلاع على حالهم، والوقوف على أسرارهم، وبعد الفتنة يأخذونه رويدًا رويدًا. ثم إنهم جعلوا للشيخ (المُسلِّك) سلطة خاصة على مريديه، حتى قالوا: يجب أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، لأن الشيخ يعرف أمراضه الروحية وعلاجها. فإذا أبيح له مناقشته ومطالبته بالدليل تتعسر معالجته أو تتعذر. فلا بد من التسليم له في كل شيء من غير منازعة، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنها لخيره، وأن فعلها نافع له ومتعين عليه فكان من قواعدهم التسليم المحض والطاعة العمياء.
وقالوا إن الوصول إلى العرفان المطلق، لا يكون إلا بهذا ثم أحدثوا إظهار قبور من يموت من شيوخهم، والعناية بزيارتها لأجل تذكر سلوكهم ومجاهدتهم وأحوالهم ومشاهدتهم، لأن التذكر من أسباب القدوة، والتأسي هو طريق التربية القويم عندهم وعند غيرهم.
فظهر من هذا الإجمال أن قصدهم في هذه الأمور كان صحيحًا، وأنهم كانوا يريدون الخير المحض
…
ولكن ماذا كان أثر ذلك على المسلمين؟ كان منه أن مقاصد الصوفية الحسنة قد انقلبت ولم يبق من رسومهم الظاهرة إلا أصوات وحركات، يسمونها ذكرًا، يتبرأ منها كل صوفي، وإلا تعظيم قبور المشايخ تعظيمًا دينيًا، مع الاعتقاد بان لهم سلطة غريبة تعلو الأسباب التي ارتبطت بها المسببات بحكمة الله تعالى، بها يديرون الكون، ويتصرفون فيه كما يشاءون، وأنهم قد تكفَّلوا بقضاء حاجة مريديهم والمستغيثين بهم أينما كانوا. وهذا الاعتقاد هو عين اتخاذ الأنداد، وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف من الصحابة وأئمة التابعين والمجتهدين.
وزادوا على هذا شيئًا آخر، هو أظهر منه قبحًا وهدمًا للدين، وهو زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر، فإذا اقترف أحدهم ذنبًا فأنكر عليه منكر، قالوا في المجرم إنه من أهل الحقيقة، فلا اعتراض عليه وفي المنكر إنه من أهل الشريعة فلا التفات إليه. كأنهم يرون أن الله تعالى أنزل للناس دينين، وأنه يحاسبهم بوجهين، ويعاملهم معاملتين -حاشا لله- نعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة، ومرادهم به أن في كلام الله ورسوله ما يعلو أفهام العامة، بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف، التي لا يعرفها إلا الراسخون في العلم .. فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها
…
هكذا كان القوم: الصوفيون الحقيقيون في طرف، والفقهاء في طرف آخر، وبعد ما فسد التصوف وانقلب من حال إلى حال مناقضة لها، وضعف الفقه، فصار مناقشة لفظية في عبارات