الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن إقرارنا بأن الأستاذ الإمام قد تأثر بمدرسة المعتزلة، لا يعني أنه كان معتزليًا، ولا يعني كذلك أنه كان من أعيان مفسري المعتزلة، ولذا فليس من المقبول أن نعدّه من المعتزلة.
إن تأثر الأستاذ بمدرسة الاعتزال يبدو في أكثر من مظهر، ويتضح في أكثر من وجه، وللتعرف على تلك المظاهر أورد الأمور التالية:
أولًا: الصبغة العقلية
في تفسيره وتركه بعض المأثور في كثير من المواضع.
ثانيًا: تأثره في بعض مواضع التفسير بابن بحر (1).
ثالثًا: مسألة السحر وما يتصل بها.
أولًا: الصبغة العقلية:
إن ما يقرره الأستاذ في كثير من المواضع، يلمح القارئ فيه تحكيم العقل، مع أن ذلك يبدو مخالفًا لما صح من المأثور، كما نرى ذلك واضحًا في تفسيره لسورة الفاتحة. حيث يقول:(وإني أرجح أنها أول ما نزل على الإطلاق، ولا أستثني قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}) ثم يعلل ذلك تعليلًا يبدو مقبولًا لأول وهلة من الوجهة العقلية، حيث يقول: (ومما يدل على ذلك أن السنة الإلهية في هذا الكون، سواءً كان كون إيجاد، أم كون تشريع، أن يظهر سبحانه الشيء مجملًا، ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجيًا. وما مثل الهدايات الإلهية إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها، ثم تنمو بالتدريج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها، ثم تجود عليك بثمرها. والفاتحة مشتملة
(1) هو محمد بن بحر الأصفهاني، المعروف بأبي مسلم، معتزلي، كان عالمًا بالتفسير وبغيره من صنوف العلم، له كتاب (جامع التأويل في التفسير) في أربعة عشر مجلدًا، جمع سعيد الأنصاري نصوصًا وردت منه في تفسير الرازي، سماه (ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل) وقد حفظ لنا الرازي رحمه الله تلك النصوص التفسيرية، بما لا نجدها عند غيره، توفي أبو مسلم (322 هـ).
على مجمل ما في القرآن، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها) (1).
وهذا كلام -مخالف للروايات الصحيحة، من أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
…
} [العلق: 1 - 5](2)، وإذا صحت الرواية فلا ينبغي أن يُعدلَ عنها فإن فيه تحميل الفاتحة ما لا تحمل، وهذا ما يعترض به الأستاذ الإمام كثيرًا على غيره من المفسرين، ولكن الصبغة العقلية قد أخذت من الشيخ مأخذها في تحديد أول ما نزل.
وفي السورة نفسها عند تفسير (المغضوب عليهم والضالين) يقول الأستاذ: (فالمغضوب عليهم، هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله تعالى ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه، انصرافًا عن الدليل ورضا بما ورثوه من القليل ووقوفًا عند التقليد وعكوفًا على هوى غير رشيد، وغضب الله عقوبته وانتقامه
…
ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضًا، لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها، فلا يصلون منها إلى مطلوب، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب، ولكن فرق بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم، وبين من لم يظهر له الحق، فهو تائه بين الطرق، لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها، وهم من لم تبلغهم الرسالة، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق، فهؤلاء هم أحق باسم الضالين) (3).
أقول: إن حديث عدي بن حاتم الذي ورد فيه (أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى) والذي أخرجه الترمذي في جامعه (2953) وأخرجه ابن حبان (6246) و (7206) وأخرجه أحمد (4/ 378 - 379) والطبراني (17/ 237)، والبيهقي في الدلائل (5/ 339 - 41 - 341) وأخرجه الطيالسي (1040).
(1) المنار (1/ 35).
(2)
صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
المنار (1/ 68، 69).
ومعظم أسانيد هذا الحديث مروية من طريق سماك بن حرب. قال الترمذي بعد إيراده: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، فإذا علمنا هذا وعلمنا أن سماكًا قال في شأنه ابن معين حينما سئل عنه: ما الذي عابه؟ قال: أسند أحاديث لم يسندها غيره وهو ثقة، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف، وقال النسائي: ليس به بأس وفي حديثه شيء، وقال صالح بن محمد: يُضَعَّف، وقال ابن خراش: في حديثه لين.
وقال النسائي: كان ربما لقن، فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة لأنه كان يلقن فيتلقن. ومن هنا أدركنا أن هذا الإسناد عليه إشكال لا يزيله تحسين بعض المحدثين له كما صنع ابن حجر -رحمه الله تعالى- اعتمادًا على الشواهد والمتابعات وذلك أن الشواهد التي تذكر ليست تفسيرًا للآية الكريمة والمتابعات لا تصح، وعلى فرض تجاوزنا وسكوتنا عن هذه الإشكالية، تبقى مسألة أخرى، وهي: هل بعض المرفوعات للنبي صلى الله عليه وسلم في ذكره أن المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى تفسير للآية بحيث لا تقبل مخالفته، ومثل ذلك الآثار الموقوفة على الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن تابعهم من التابعين؟
في ظني أن الأمر فيه سعة، وليس بالصورة الضيقة التي يظنها بعض الناس من أن التفسير قد اقتصر على اليهود والنصارى، بحيث لا يتجاوزهم إلى من هو أسوأ منهم.
وعلى أي حال فإن تفسير الشيخ رحمه الله لا يخالف الآثار المروية في ذلك ولا يعد في هذا المثال متأثرًا بالعقل، وإنما ذكرناه ها هنا لندرك بيان الفرق فيما يكون فيه الشيخ متأثرًا بالصبغة العقلية وما لا يكون كذلك.
وتظهر هذه النزعة العقلية أيضًا، عند تفسير قول الله تعالى:{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] من سورة البروج. فلقد ضرب الإمام صفحًا عن كل الروايات التي وردت في تفسيرهما (1) -كما رأينا ذلك سابقًا- وكذلك عند تفسير قول الله تعالى:
(1) تفسير جزء عم ص 57.