الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفات الآلهة المتعددة في أطوارها السابقة
…
وكثيرًا ما ينفرد الإله الأكبر في هذه الأمم بالربوبية الحقة وتنزل الأرباب الأخرى إلى مرتبة الملائكة أو الأرباب المطرودين من الحضيرة السماوية .. ).
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصًا من آراء علماء الدين المقارنة أن البشر هم الذين ينشئون عقائدهم بأنفسهم، ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية
…
وهذا واضح من الجملة الأولى في تقديم المؤلف لكتابه (موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية منذ أن اتخذ الإنسان ربًا إلى أن عرف الله الأحد واهتدى إلى نزاهة التوحيد
…
) وما من شك أنه حين يقرر الله سبحانه أمرًا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع، ويقرر غيره أمرًا آخر مغايرًا له تمام المغايرة، فإن قول الله يكون أولى بالاتباع (1) وبخاصة ممن يدافعون عن الإسلام
…
وأن هذا الدين لا يخدم بنقض قاعدته الاعتقادية في أن الدين جاء وحيًا من عند الله ولم يبتدئهُ البشر من عند أنفسهم وأنه، جاء بالتوحيد منذ أقدم العصور، ولم يجيء بغير التوحيد في أي فترة من فترات التاريخ، ولا في أي رسالة، كما أنه لا يخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء الأديان المقارنة، وبخاصة حين يعلم أن هؤلاء دائمًا يعملون وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية لدين الله كله، وهي أنه وحي من الله وليس من وحي الفكر البشري المترقي المتطور، وليس وقفًا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية
…
).
بيانه لأصل العقيدة الإسلامية وأنها الأساس لجميع البشر:
وبعد أن بين سيد أن عقيدة التوحيد هي الأساس والأصل الثابت للإنسان في مختلف أطواره وأدواره، وأنها شرع الله الذي أوحاه لجميع أنبيائه منذ أن خلق الله الإنسان، انتقل إلى موضوع متشعب ومتفرع من هذا الموضوع هو أن التجمع لا
(1) بل هو وحده الحقيق بالاتباع.
ينبغي أن يكون إلا على أساس هذه العقيدة الثابتة في أغوار التاريخ وجذور الزمن، وأن أي تجمع على شيء سوى تلك العقيدة إنما هو تجمع على أمر غير مسحقر، فسرعان ما يتداعى بنيانه من القواعد، ويخر سقفه، وبخاصة أن لهذا التجمع على العقيدة ميزات لا تتوفر لغيره أبدًا، يقول صاحب الظلال في ظلال حوار نوح في شأن ابنه {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَال يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45 - 46].
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم، إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب وليست وشيجة الأرض والطين وليست وشيجة القوم والعشيرة
…
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد كما قال الله سبحانه لعبده نوح عليه السلام:
{يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ثم بين لماذا يكون ابنه ليس من أهله
…
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فأنت تحسب أنه من أهلك ولكن هذا الحسبان خاطئ، أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ولو كان هو ابنك من صلبك! ! .
وهذا هو المعلوم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة
…
إن الجاهليات تجعل الرابطة آنًا هي الدم والنسب، وآنًا هي الأرض والوطن، وآنًا هي القوم والعشيرة، وآنًا هي اللون واللغة، وآنًا هي الجنس والعنصر، وآنًا هي الحرفة والطبقة، تجعلها آنًا هي المصالح المشتركة أو التاريخ المشترك أو المصير المشترك
…
ولكنها تصورات جاهلية على تفرقها وتجمُّعِها- تخالف مخالفة أصلية عميقة أصل التصور الاسلامي)! ! .
ثم يأتي للتدليل على ذلك بأمثلة لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى ليقرر من ورائها حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يجب اعتبارها.
من ذلك ما يكون بين الولد والوالد كإبراهيم وأبيه وبما يكون بينه وبين قومه كإبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام مع أقوامهم، وما يكون بين الزوج وزوجه كنوح ولوط وامرأة فرعون، وما يكون بين المؤمنين وأهليهم وقومهم ووطنهم وديارهم وأموالهم ومصالحهم وماضيهم وحاضرهم، كالذين آمنوا مع إبراهيم وأصحاب الكهف ويعقب على ذلك بقوله:
(وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان وضحت معالم الطريق لهذه الأمة، وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها، وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة وفي توجيهات من القرآن كثيرة
…
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصلية الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي
…
ولم يعد هناك مجال للجمع بين الإسلام وبين إقامة المجتمع على أي قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة، والذين يدعون صفة الإسلام ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحلّ الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه، والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية الحديثة فعلًا (1).
ثم ينتقل بعد ذلك لبيان مزايا هذا التجمع على العقيدة وخصائص تلك العقيدة فيذكر أولًا أن العقيدة تمثل أعلى خصائص الإنسان التي تفرقه من عالم البهيمة؛ لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها، وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانًا في هذه الصورة، وأنها تتعلق
(1) الظلال جـ 12 ص 79 - 80 الطبعة الخامسة.
ثانيًا بعنصر آخر يتميز به الإنسان
…
هو عنصر الاختيار والإرادة، فأكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ الرشد، وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارًا بينما ليس له اختيار في بقية الروابط الأخرى وثالثًا أن إنشاء مجتمع على آصرة العقيدة من شأنه أن يوجد مجتمعًا إنسانيًا عالميًا مفتوحًا بشتى الأجناس والألوان والأقوام واللغات، ويضرب مثلًا لذلك بالمجتمع المسلم الذي صهرت في بوتقته خصائص الأجناس البشرية وتمازجت وأنشأت حضارة ضخمة رائعة تحوي خلاصة الطاقة البشرية مجتمعة.
ثم يأتي بأمثلة للروابط التي قامت عليها المجتمعات قديمًا وحديثًا كالإمبراطورية الرومانية قديمًا، والإنجليزية والشيوعية حديثًا، ويذكر أن هذه التجمعات القائمة على مثل هذه الروابط قد أثمرت أسوأ ما في الكائن الإنساني.
وإذا كان هذا شأن العقيدة في أصالتها وخصائصها وكونها منهجًا ربانيًا، فإن في القرآن الكريم مشاهد عديدة تبين لنا رعاية الله وعنايته لحملة هذه العقيدة مهما كانوا من قلة عدد وهذا ما ينبغي أن نتفياه من ظلال قصص الأنبياء عليهم السلام. من ذلك ما يذكره الأستاذ سيد بعد استعراضه لقصة نوح عليه السلام (1): (ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه، إن حفنة المسلمين من أتباع نوح عليه السلام تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عامًا، كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن
…
إن هذه الحفنة -وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهاد الطويل- قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض، وأن يجعل هذه الحفنة
(1) الظلال (4/ 1892 - 1894).
وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك
…
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى
…
شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعًا كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد
…
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة
…
وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان
…
فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها .. وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه إلا فترة الإعداد والابتلاء. إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية، وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية. إن الجاهلية تملك قواها، ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله، والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية- حينما يشاء وكيفما يشاء وأيسر هذه القوى أن يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب! .
إن عصر الخوارق لم يمض، فالخوارق تتم في كل لحظة وفق مشيئة الله الطليقة، ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطًا أخرى تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها، وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها، ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائمًا، ويلامسون آثارها المبدعة.
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملًا، بكل ما في طاقتهم من جهد ثم يدعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة، وعندما يغلبون، عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين، وأن يجأروا إليه كما جأر العبد الصالح نوح
…
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10].
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف أسراره إلا للذين يخوضون به