الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ممن يستحقون العفو على مقتضى العفو الإلهي.
أما التوسل، فلم يرد فيه حديث إلا من طريق الآحاد، ولا أثر لهذا الأمر في القرآن ولا في السنة المتواترة، ولم يرد على ألسنة الصحابة كما تدل عليه الأدعية المأثورة عنهم من طريق صحيح.
والذي نراه اجتناب الأمور المشكوك فيها احتياطًا للدين.
أقول: لقد صحت الأحاديث التي تثبت شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما التوسل فقد وردت فيه أحاديث آحاد، ، لذلك اختلف الناس فيه اختلافا كبيرًا، فمنهم المفرِط ومنهم المفرِّط، منهم من يعدّ أن التوسل نوع من أنواع الشرك الأكبر، ومنهم من يفتح فيه الباب على مصراعيه، ولكلٍّ من هذين الفريقين ما ينبغي أن ينُاقش فيه، ولقد ذكر العلامة الألوسي في تفسيره الفذ روح المعاني عند تفسير قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35] كلامًا كثيرًا ناقش فيه الآراء المتعددة، وخلص إلى القول بأن التوسل لا يجوز بأحد من الخلق إلا للرسول عليه وآله الصلاة والسلام، ومن قبل الألوسي رحمه الله ذكر العلامة المناوي في كتابه كثير الفوائد (فيض القدير شرح الجامع الصغير) عند شرحه لحديث الأعمى الذي طلب من الرسول أن يدعو الله ليعيد له بصره، ذكر رحمه الله أن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم كان أمرًا مجمعًا عليه لم يخالف فيه أحد من العلماء، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحم الله الجميع، فهو أول من حرم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولست بصدد مناقشة هذه القضية لكني أحببت أن أعلق على ما ذكره الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله.
القضاء والقدر في نظر القرآن:
النظر المجرد في الكون يدلنا على أنه قائم على نظام ثابت والبحث في هذا يدلنا على أن له قوانين ونواميس تمسكه وتحفظه، فلا تحدث في الهواء حركة ولا تسقط من شجرة ورقة إلا تبعًا لقانون ثابت، وفاعل مؤثر، هذا الأثر مشاهد في عوالم
الجمادات والنباتات أتم مشاهدة، وهو في عالم الحيوانات أقل ظهورًا لما متعت به من الحس والحركة، وهو في العالم الإنساني يحتاج لتأمل ونظر، فلو قلت للمتوحش: إن كل حركة وسكنة فيك تابعة لقانون ثابت شك في قولك إنْ لم يكن أخذه من طريق الدين بالتسليم.
اتحد الدين والعلم الطبيعي على أن الإنسان مجبر على أفعاله حتى إن أحد رؤوس الماديين العصريين بوشنر الألماني قال إن الحرية الإنسانية التي اعتبرها الروحيون مبدأ للاختيار والإرادة وهمٌ باطل، فإن الإنسان في ذاته حادث طبيعي محكوم بالطبيعة التي كونته والمناخ الذي ربّاه، والوسط الذي يقله، والجنس الذي نشأ منه، والتربية التي غرست فيه من صغره.
يتصدق الرجل منا مثلًا، فإن سألته عن السبب الذي حمله على التصدق قال لك: إرادتي، فإن سألته: وما الذي حمل إرادتك؟ قال: شفقتي، فإن قلت: وما الذي أوجد لك الشفقة دون جارك، قال: ورثتها عن أبي وجدي، أو من طبيعة مزاجي.
فإن سألته: ومن الذي أوجد لك هذا المزاج وصوّر أباك شفيقًا؟ قال: الله تعالى بما أوجده من عوامل، إذن فقد حكمتما بأن الباعث للصدقة في الواقع هو الله، وهكذا تستطيع أن تصعد بسائر أعمالك إلى موجدها الله سبحانه وتعالى.
هذا معنى القضاء والقدر، وهو معنى قوله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وبعد أن أثبت الله تعالى علمه بالجزئيات قرر في آية أخرى بأن كل الحوادث هو فاعلها، فقال تعالى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
إذا تقرر هذا قال لنا قائل: إذا كانت أعمال الإنسان مقدرة عليه تقديرًا، فكيف يصحّ أن يعاقبه في الآخرة على فعل ليس هو فاعله في الحقيقة؟ .
حل هذه المسألة يقتضي أن ندرك كنه علاقة الإنسان بالخالق، وكيفية ترتب الأحوال في العالم الأخروي على أعمال الإنسان في هذا العالم، وحكمة خلق الشر في الدنيا، وحقيقة النظام الكوني من حيث عوامله وكائتاته، وغاية كل منها، والخلاصة أن حل هذه المسألة العويصة يستدعي تمام الإلمام بمسائل ليس للإنسان منها إلا علم سطحي لا يغني عن الكنه شيئًا، ولو سمحنا لأنفسنا بالخوض في هذه المسألة مع جهلنا لمقدماتها كنا كالجهال يرون الترامواي سائرًا، فيعللون حركته تعليلًا طفليًا يضحك العاقل، ويضل الجاهل، فوقوفنا أمام هذه المسألة سببه جهلنا بمقدماتها، فإذا انتظرنا حتى يفتح الله علينا بالمقدمات، كان كلامنا فيها عن بصيرة وبيّنة.
إنا نستطيع أن نذكر في هذه الموضوع كلامًا ننفي به عن أنفسنا أمام البسطاء صفة الجهل، ولكنا نعلم أن ما من حل لهذه المسألة إلا وهو قابل للانتقاد والرد، فليجعل كل منا هذه المسألة مما يسأل الله هدايته إلى حله، وليتق الله في الطلب، وهو يفتح عليه من العلم والطمأنينة ما لا يجد بعضه بالجدال والخصومة، قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282].
أقول: إن أمر القدر من الأمور التي تاهت فيه كثير من العقول وقد عرضت لشيء من هذا في الكتاب الأول عند حديثي عن الدكتور مصطفى محمود، حيث عرض إلى قضية القدر، وكان لا بد من مناقشته هناك، على أن الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله قد يكون أصاب كبد الحقيقة حينما قرر أن هذه القضية من القضايا التي سيظل الإنسان فيها محتاجًا إلى تعليم الله وهدايته، ولعل من سلامة العقيدة أن تدرس هذه القضية على ضوء الهدي الرباني في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وللعلامة الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في دار الخلافة عرض مبسط، فقد