الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأثره بالإمام وآراؤه الإصلاحية:
لقد نادى الأستاذ الإمام من قبل بإصلاح الأزهر، ولكنه لم يبلغ بغيته، وذلك لأن كثيرًا ناصبوه العداء، وعلى رأس هؤلاء خديوي مصر، ولكن الشيخ المراغي، استطاع بحنكته وحكمته، أن يبقي على شعرة معاوية، وذلك بما كان بينه وبين الحاكم من صلات، ولقد تسنى له أن ينفذ برنامجه الإصلاحي، فكان امتدادًا لأفكار الشيخ محمد عبده، وكان الأستاذ الإمام رحمه الله المصباح الذي أضاء طريقه، على حد تعبيره، وكان المراغي يجل الإمام كثيرًا، ويظهر هذا في كلماته وتصريحاته المتعددة
…
وآراء الشيخ في الإصلاح خير دليل على ذلك، وهذا ملخص لمذكرته الإصلاحية نوجزها فيما يلي (1):
1 -
يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنّة دراسة جيدة، وأن يفهما وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني.
2 -
يجب أن تهذب العقائد والعبادات، وتنقى مما جد فيها وابتدع، وتهذب العادات الإسلامية بحيث تتفق والعقل وقواعد الإسلام الصحيحة.
3 -
يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة، خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة.
4 -
يجب أن تدرس الأديان، ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام، بما هو موجود في الدين الإسلامي، ليظهر للناس يسره وامتيازه عن غيره في موطن الاختلاف.
5 -
يجب أن تدرس أصول المذاهب في العالم قديمها وحديثها.
6 -
يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة، كما درسها الأسلاف.
(1) الإمام المراغي أنور الجندي 67 - 68.
7 -
يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية واللغوية على طريقة التأليف الحديثة.
8 -
يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين، لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة، ودينه عام ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة والأمكنة المختلفة، وإن لم يفعل هذا يكن عرضة للنفور منه والابتعاد عنه، كما فعلت بعض الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها، إذ تركت الفقه الإسلامي لأنها وجدته بحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم (1).
ونلاحظ أن الشيخ لم يقف تأثره بالإمام في مجالات الإصلاح فحسب، بل إنه تعدى هذا إلى قضايا الفكر، ولقد مر أن الأستاذ الإمام تأثر بالحضارة الغربية، ولوحظ هذا في مواضع كثيرة من تفسيره، كتأويله لبعض الآيات الذي مرت نماذجها عند حديثنا عنه، لذا نرى الشيخ المراغي، لا يجد محظورًا في تأويل الآيات إذا تصادمت مع نظرية من نظريات العلم الحديث.
يقول ردًّا على سؤال المحرر في مجلة (الهلال)(2). وكان نص السؤال ما يلي: ماذا يكون موقفكم إذا ما كانت نتيجة البحث تخالف أوامر الدين؟ يقول الشيخ: (تريد أن تقول إن هناك نظريات أثبتها العلم تخالف ما ينص عليه الدين، فأنا أقول إن هذه النظريات إن كانت نضجت وصحت عند العلماء، وثبتت ومضت عليها المدة الكافية، وجب علينا أن نوفق بينها وبين الدين، فالقرآن مثلًا ذكر أن لله وجها وأنه يستوي على العرش، وهذه الأوصاف توهم أن لله جسمًا ولكن الفقهاء عندما
(1) لست مع الشيخ فيما ذهب إليه، فإن ترك الأمة للفقه الإسلامي لم يكن ناشئًا عن تقصير العلماء، وإنما سببه ما بُيِّت لهذا الدين من مكر وكيد اشترك فيه المستشرقون والمستغربون على السواء، وصدق الله {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
(2)
يونيه سنة 1929 م.
تفقهوا بالفلسفة أولوا هذه الأوصاف بما يوافق التجرد في ذاته، وكذلك يجب أن نفعل .. ).
وهذا القول من الأستاذ الأكبر يستدعي الدهشة والعجب من وجهين اثنين: أما أولًا فإن النظريات العلمية لا ينبغي أن نقف منها موقف الخائف الوجل، وأن نكون أمامها مستضعفين نجعلها أصلًا يقاس عليها، ولو أن هذا الذي نقيسه رأيٌ لمجتهد أو قولٌ لفقيه أو أثرٌ لتابع أو صحابي لهان الأمر، أما أن نقيس على تلك النظريات كلام الحكيم الحميد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهذا أمر لا يقبل من أحد، وهذا لا يعدو في رأينا أن يكون شعورًا بالهزيمة ولو داخليًا أمام المادة وعلمائها، الذين أرادوا أن يجرف تيارهم كل أثر للدين.
ثم ما هي هذه النظريات العلمية التي خالفت نصًّا من نصوص القرآن؟ إن معنى كونها نظرية أنها لا زالت محل نظر، كنظرية (داروين) مثلًا وكنظريات علماء الفلك والتاريخ وطبقات الأرض، إن موقفنا ينبغي أن يكون حاسمًا وحازمًا في هذه القضية، فنجعل القرآن هو الأصل، ونوقن في أنفسنا أن هذا القرآن الذي يقول عنه منزله تعالى:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، لا يمكن أن يتناقض، لا في نفسه ولا مع مسلمات العلم التي أودعها الله في هذا الكون، فالطبيعة بقوانينها كتاب الله المرئي، والقرآن كتابه المتلو، وبغير هذا اليقين سنعرض النص القرآني لهزات عنيفة، لا يعلم خطورة نتائجها إلا الله، وأولو الغيرة على هذا الدين.
ولقد رأينا كثيرين من أساتذتنا الفضلاء، وقفوا موقف المتردد، فالأستاذ المرحوم الشيخ عبد الوهاب النجار مثلًا في كتابه (قصص الأنبياء) حين يتكلم عن قصة آدم عليه السلام يعرض لنظرية داروين، ويقول إنه إن ثبتت تلك النظرية فلا منافاة بينها وبين القرآن، إذ يمكن أن نؤول الآيات.
وأنا أقول: رحم الله الأستاذ وعفا عنه، وليطب نفسًا، فإن آي القرآن ستبقى الوثيقة الخالدة الوحيدة، وستبلى هذه النظريات كما بلى أصحابها.
أما الأمر الثاني الذي من أجله كانت الدهشة من كلام الأستاذ الأكبر رحمه الله، فهذا المثل الذي جاء به ليثبت ما أراد، وهو مسألة الصفات، حيث يقول: إن العلماء حينما تفقهوا بالفلسفة أولوا هذه الآيات، ونحن نتساءل ما موقف من لم يتفقه بالفلسفة ابتداء من الصحابة رضوان الله عليهم، هل كانت هذه الآيات توهم عندهم التشبيه؟ وهل فهموا ذلك منها، واستمر هذا حتى جاءت الفلسفة والمتفلسفون، فصححوا لنا هذا؟ اللهم لا وألف لا! هذا فضلًا على أنه لا صلة بين مسألة الصفات، وبين ما سئل عنه الأستاذ.
وهناك مسألة أخرى عرض لها الأستاذ الأكبر، لا تقل خطورة في ذاتها ونتائجها عن سابقتها، وأعني بها ترجمة القرآن، فلقد أخذت هذه المسألة اهتمامًا كبيرًا لدى العلماء قديمًا وحديثًا، والقرآن كما نعلم كتاب العربية الأول، وللعربية خصائص لا توجد في غيرها من اللغات، وترجمة القرآن بنصه من الأمور المتعذرة، التي ليست في طاقة البشر، ولكن الأستاذ كان لا يرى محظورًا في ترجمة القرآن، أو على الأقل ترجمته بدلالات معانيه الأولية، يقول الأستاذ: (أما إمكان الترجمة فهو أمر هين يدركه من لا يعرف (اللغة العربية
…
-وقد تستطيع اللغة المنقول إليها، أن تؤدي بعض الخصائص في اللغة العربية، وتنهض لأداء الدلالات التابعة، يعرف هذا من عاين نقل العلوم والفنون من لغة إلى أخرى، ومن يدرك فقه اللغات وخواص استعمالها
…
وإذا كان الأمر هكذا، كان ادعاء إنَّ القرآن الكريم كله لا يمكن ترجمته ادعًاء خاطئًا، بل الحق أن يقال: إنه يمكن ترجمته كله من ناحية الدلالات الأصلية، وتستحيل ترجمته من ناحية الدلالات التابعة) (1).
وكأن الذي حدا به إلى هذا اعتقاده بعالمية القرآن وتيسيره للناس، ولكن هذا ليس مسوغًا لترجمة القرآن نفسه، بل يمكن أن تترجم معانيه، أما القرآن فيبقى كما
(1) بحث في ترجمة القرآن الكريم وأحكامها، الشيخ المراغي ص 706، مطبعة الرغائب سنة 1355 هـ-1936 م وهو بحث له فيه آراء غريبه بل شاذة.