الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلامًا وأوزانًا ويجعل منها الله قرآنًا، والفرق بين صنع البشر وصغ الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض
…
هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة.
2 - المفسر والآيات العلمية:
ترى في أي اتجاه سيسير صاحب الظلال وهو يتحدث عن الإشارات الكونية في القرآن؟ أيسير مع هؤلاء الذين يرقصون طربًا، ويفرحون جذلًا، حينما يستشفون من قرب أو بعد اتفاق قضية علمية مع آية من كتاب الله، ولو كانت نظرية لا تزال، ليثبتوا أن القرآن كتاب الله ومن هنا جاء يقرر تلك المسائل العلمية قبل أزمنة بعيدة، أم مع أولئك الذين يرفضون كل الرفض، ويأبون كل الإباء أن تفسر آي القرآن بشيء من مسائل العلم، ولو كانت حقائق ثابتة، ولا يسمحون بأن يستشهد بآية من كتاب الله على مسألة ما، ولو كان ذلك دون المساس بالتفسير، بحجة أن القرآن لم يأت بشيء من هذا؟ ! ، يقينًا إنه لا يسير مع الفريق الأول الذين يلهثون وراء النظريات العلمية أيًا كانت؛ ذلك لأن إيمانه بأن القرآن كتاب الوجود الأكبر الذي ينظم شأن الإنسان ويسمو به، يجعله يحدد موقفه، من تلك القضية التي طالما تشعبت فيها الآراء، تحديدًا دقيقًا، فالقرآن الذي يسمو به الإنسان ليس كتابًا يتحدث عن الآلة الصماء لأن الله الذي خلق الإنسان تكفل أن يهديه ليطلع على أسرار هذا الكون بفكره، وإذا كان صاحب الظلال لم يسر مع هذا الفريق فهل تستطيع أن تجعله من الفريق الآخر الذين ينكرون على الذي يحوم حول المسائل العلمية وهو يفسر آي القرآن حتى لو كان ذلك استطرادًا أو إشارة دون أن يمس قدسية الآية أو أن ينال من لغتها أو مما ورد فيها من الآثار الصحيحة؟ الحق أننا ونحن نستعرض موقفه نجد أن الرجل الذي كان معتدلًا في نظرته لتلك الأمور غير متنكب لصراط الحق السوي لا يتجاوز نص الآية أو روحها، ولكنه لا يجمد كذلك على ما ذكره المتقدمون، دون أن يفيد من ظلال الآيات الممتدة في جذور الحياة وثنايا الكون، فهو لا يأبى أبدًا أن
يتوسع في تفسير الآيات لتشمل ما قرره العلم من حقائق ثابتة، ما دام ذلك ليس فيه تكلف ممجوج، ولا تعارض محجوج، فالحقائق العلمية -كما يقول- إذا كنا سنتكلف لها بتحميل الآيات أكثر مما نحتمله- حري بنا أن لا نخلط بينها وبين القرآن فما بالك بالنظريات التي لم تثبت، يقول عند تفسيره لقول الله تعالى: (
…
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).
(لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص ونظام خاص ومجتمع خاص
…
كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض ذات دور خاص في قيادة البشرية، لتنشيء نموذجًا معينًا من المجتمعات غير مسبوق، ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة، وتحت قواعد هذه الحياة في الأرض تقود إليها الناس.
…
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية، ولا تفيدها كثيرًا في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها، وليس مجالها على أيّ حال هو القرآن، إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي، كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا في هذه العلوم.
إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفة ومجال عمله، إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية، وإن وظيفته أن ينشيء تصورًا عامًا للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه، وأن يقيم على أساس هذا الصور نظامًا للحياة، يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته
…
ومن بينها الطاقة العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل -بالبحث العلمي- في الحدود التامة للإنسان وبالتجريب والتطبيق وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.
إن مادة القرآن التي يعمل منها هي الإنسان ذاته، تصوره واعتقاده ومشاعره ومفهوماته وسلوكه وأعماله وروابطه وعلاقاته
…
أما العلوم المادية والإبداع في
عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته، بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنها مهيأ لها بطبيعة تكوينه
…
والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له وليزوده بالتصور التام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه -وهو أي الإنسان أحد أجزائه- ثم ييسّر له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته، ولا يعطيه تفصيلات؛ لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي.
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها
…
كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!
…
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحيانًا عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه وطبيعة التناسق بين أجزائه، لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن بفروض العقل البشري ونظرياته ولا بما يسميه (حقائق علمية) مما ينتهي إليه بطريقة التجربة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما ما يصل إليه البحث الإنساني أيًا كانت الأدوات المتاحة له -فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها
…
فمن الخطأ المنهجي -بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن تعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية وهي كل ما يصل إليه العلم البشري.
هذا بالقياس إلى (الحقائق العلمية)
…
والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى (علمية)
…
ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات
الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها
…
فهذه كلها ليست حقائق علمية بالقياس الإنساني، وإنما هي فروض ونظريات، كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر مقدار من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية
…
إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدرًا أكبر من الظواهر أو يفسر تلك الظواهر تفسيرًا أدق) (1).
وبعد هذا يبين الأستاذ سيد أن مثل هذا العمل ليس صحيحًا من الناحية المنهجية، ثم يحاول أن يستجلي الأسباب التي دفعت مثل هؤلاء إلى محاولات التوفيق هذه ويركز فيما يركز على الناحية النفسيَّة التي يعانيها هؤلاء في داخلهم وبخاصة أمام هذا الواقع الذي بهر الكثيرين وهزم فيه الكثيرون، وهذا المعنى النفسي يكرره صاحب الظلال كأنما يريد بذلك أن يقتلع هذا التأثير لحضارة الغرب والتأثر بهذا الواقع والانهزام الذي يقاسيه ويعاني منه الكثيرون، أن يقتلع ذلك كله من جذوره وهو محق في ذلك، فنحن نرى في مجتمعنا الكثيرين من طيبي القلوب وحَسَني النيات يدأب أحدهم على البحث لإيجاد الصلة الوثيقة بين القرآن وبين تلك الحضارة، وهذا إنما يرجع للشعور بالنقص والضعف والتخلف ومن الصعب أن نتخلص من تلك الأخطاء المتراكمة ما لم نتخلص من تلك المشاعر، يقول صاحب الظلال: (وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا تحتوي أولًا على خطأ منهجي أساسي كما أنها تنطوي على معانٍ ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم
…
الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن، والقرآن تابع ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه، والعلم ما يزال في موضوعه ينقضُ اليوم ما أثبته بالأمس وكل ما يصل إليه
(1)(1/ 180 - 182) بتصرف.
غير نهائي ولا مطلق
…
الثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته، وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي ..
الثالثة: هي التأويل المستمر -مع التحمل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحلها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يجدّ فيها جديد).
وهنا نرى الأستاذ سيد يؤكد ما قلناه عنه في أول البحث وهو أنه لا ينبغي أن يحول ما قرره بين الإنسان وبين الانتفاع بما يكشفه العلم من نظريات وحقائق في فهم القرآن (فهو يقول -ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات ومن حقائق) عن الكون وعن الحياة
…
(كلا إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان، ولقد قال الله سبحانه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله، وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.
فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة ثم يأتي بأمثلة على كلا المسلكين أعني مسلك تفسير القرآن حسب النظريات ومسلك الاستفادة مما كشفه العلم في فهم القرآن.
يقول القرآن الكريم مثلًا {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون
…
الأرض بهيئتها هذه وبعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه وبميل محورها هذا وبتكوّن سطحها هذا
…
وبالآلاف من الخصائص
…
هي التي
تصلح للحياة وتوائمها
…
فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة
…
هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} وتعميقه في تصورنا.
هذا جائز ومطلوب
…
ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علميًّا هذه الأمثلة الأخرى.
يقول القرآن الكريم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس وداروين تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة وأن هذه الخلية نشأت في الماء وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان
…
فنحمل نحن هذا النصَّ القرآني ونلهث وراء النظرية لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن
…
لا
…
إن هذه النظرية أولًا ليست نهائية، فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائيًا
…
وهي معرضة غدًا للنقض والبطلان بينما الحقيقة القرآنية نهائية وليس من الضروري أن يكون هذا معناها
…
ويقول القرآن الكريم {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] ثم تظهر نظرية تقول إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية ونقول: هذا ما تعينه الآية القرآنية.
لا
…
ليس هذا هو الذي تعنيه، فهذه نظرية ليست نهائية، وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي، أمَّا الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء
…
كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لم تتعرض له الآية
…
ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع -إنه المدلول النهائي المطابق للآية.