الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفاته:
وفي يوم الخميس 7 حزيران سنة 1956 م، استأثرت المنية بروحه الطاهرة ودفن في مقبرة الفواخير بسفح جبل قاسيون، وأقيمت له حفلة تأبين كبرى في مدرج الجامعة السورية (1).
2 - تأثره بالإمام:
يبدو تأثر الشيخ عبد القادر بالإمام محمد عبده جليًّا في كثير من المواضع، سواء أكان ذلك بتبني رأي ارتآه، أم بإشادته به، فهو يذكر في مقدمته لتفسير جزء تبارك، أنه أحجم عن تفسير هذا الجزء حينما طلب منه، لأنه سمع أن الإمام قد فسره، ويقول: إن تفسيره لهذا الجزء، سوف لا ينظر إليه على أنه تفسير له هو بصفته الشخصية، بقدر ما سينظر إليه على أنه حلقة في مدرسة الشيخ محمد عبده، ويقول في رسالته التي سماها (الحجج الظاهرة في ما هي ملذات الآخرة):(بقي أن نذكر ما قاله إمام المتأخرين، أستاذنا وقدوتنا في أبحاثنا الشيخ محمد عبده رحمه الله، في تفسيره على (جزء عم)، عند قوله تعالى في صفة أهل الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)} [الغاشيه: 8 - 11] (2).
3 - منهجه في التفسير:
لم يترك الشيخ المغربي في التفسير إلا النزر اليسير، فهو يختلف عن سابقه وزميله الشيخ رشيد فقد ترك تفسير جزء تبارك والرسالة التي نوهنا عنها آنفًا وهذا الذي تركه على قلته، يعطينا صورة واضحة عن منهجه وطريقة تفسيره، وبعد ذلك عن مدى التأثر بالإمام في التفسير.
(1) عن كتاب: (أعلام الأدب والفن) تأليف: أدهم الجندي جـ 2 ص 120 - 121.
(2)
على هامش التفسير ص 40.
أعطي الشيخ عبد القادر حظًّا وافيًا من البيان العربي، وأسلوبه يمتاز بسلاسة اللفظ، وسهولة المعنى، وجوده السبك. فتفسيره للآية من القرآن قطعة أدبية يبدعها يراعه، فيحس القارئ آثار الروعة وحسن العبارة ويسر المعنى جمالًا يترقرق، فيصل إلى قلب القارئ دون تكلف أو تعقيد.
وهو مع هذا لا يهمل دقائق اللغة، بل يتوسع فيها أكثر من شيخه الإمام، كما لا يهمل بعض النوادر التي تعكس لنا صورة واضحة عن أسلوب الشيخ، وقوة عارضته في تأدية العبارة.
أ- يقول في تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} [الملك: 15].
أصل الذلول الدابة اللينة السهلة الانقياد. مشتق من الذِّلّ بكسر الذال بمعنى اللين، وهو ضد الصعوبة، والوصف منه ذلول، أما الذُّل بضم الذال، فهو أن يهون أمر الرجل ويصغر شأنه بين الناس، وضده العز، والوصف منه ذليل.
والمناكب جمع منكب على وزن مجلس، وهو الناحية من كل شيء، فمناكب الأرض أطرافها وجوانبها، ومنكبا الرجل جانباه. والمنكب أيضًا في البعير والإنسان، اسم للموضع الذي يلتقي فيه عظم عضده بكتفه، وهما منكبان، فيحتمل أن يكون المراد بمناكب الأرض جبالها وآكامها، وتكون سميت بذلك لشخوصها وارتفاعها، كارتفاع المناكب في الإنسان، وخص الجبال بالذكر في قوله {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} لإفادة أن الأرض غاية السهولة والانقياد للإنسان، بحيث يتسنى له الانتفاع بوعورها وحزونها، فكيف يكون مقدار انتفاعه بسهولها وأريافها المنبسطة؟ يروى أن بشير بن كعب العدوي، قرأ هذه الآية {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فقال لجارية له:(إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله) فقالت: (مناكبها جبالها)، فكأنما صفع في وجهه، أي كأن لاطمًا لطمه على وجهه خشية أن تكون الجارية
أصابت في تفسير المناكب فتعتق عليه، وتخرج من ملكله، وهو ضنين بها، فسأل: فمن قائل عتقت، ومن قائل لم تعتق. ثم سأل أبا الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه فقال له:(إن الخير في طمأنينة، وإن الشر في ريبة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ومعنى هذا أن خيرًا للإنسان أن يكون في حالة طمأنينة وهدوء نفس، وأن شرًّا له أن يكون حاله على العكس، وإن الجارية يحتمل أن تكون قد أصابت وأن تكون قد أخطات. فبقاؤها في ملك سيدها مدرجة للشيطان بالوسوسة إلى نفسه، فالأحسن له أن يعتقها ثم يتزوجها إن شاء وشاءت هي).
والنشور مصدر (نشر الميت)(ينشر) من باب (دخل)، عاش بعد الموت، ومعنى كون النشور إلى الله، أن البعث ومرجع الإنسان في نشأته الأخرى إليه تعالى، فليس من يحاسبه على أعماله سواه.
قلنا آنفًا: إن هذه الآية تتضمن مثالًا من أمثلة لطفه تعالى بالبشر، منذ جعل الأرض صالحة لسكناهم فيها، على أن الآية ربما كانت مسوقة لتهديد المكذبين وتذكيرهم بأن من يسر لهم أسباب البقاء في هذه الأرض قادر على سلبهم إياها. فهو يقول لهم: احذروا هذا التمادي والتكذيب للرسل، ومحاولة إخفاء سرائركم، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول، فدعوا إذن العناد والتكذيب جانبًا وحافظوا على هذه النعمة، وامشوا في الأرض مشى المستثمر المستفيد، وانتفعوا بما هيأه لكم فيها من أنواع الرزق وأصناف القوت، ثم لا تركنوا إلى هذا العيش الهنيء، فتستسلموا إلى أهوائكم، ووساوس نفوسكم، بل تيقنوا أنكم سوف ترجعون بعد النشور، من قبوركم إلى الله، فيحاسبكم وينتصف منكم.
وانقياد الأرض للإنسان ظاهر بالأكثر في الأمم الحية، التي عرفت كيف تنتفع بقوى نفسها ومدارك عقولها الممنوحة لها من قبل العزة الإلهية، فهي لم
تدع ضربًا من ضروب الانتفاع بهذه الأرض إلا تناولته، ولا طريقًا من طرق الاستفادة من خيراتها إلا سلكته: حلّلت العناصر وركبتها، صهرت المعادن وطبعتها، عرفت طباع الحيوانات وسخرتها، فقهت خصائص النباتات واستنبتتها، اكتشفت نواميس المادة وأخضعتها، اكتنهت أسرار الكائنات واستخدمتها، غاصت في أعماق الماء، طارت في أجواء السماء، إذا اعترضتها شوامخ الجبال نادتها بالبخار من تحتها. أو توقَّلت بسلالم سكك الحديد من فوقها. وبالجملة فإن من بلوغ البشر هذه الدرجة من الرقي، مصداقًا لامتنان الباري تعالى عليهم، بجعل الأرض ذلولًا لهم يمشون في مناكبها، ويأكلون من رزقها حتى يأتيهم اليوم المقدور، ثم إلى الله يكون النشور.
وقد يقال في تصوير كون الأرض ذلولًا لنا معشر البشر، أننا نعيش محمولين على ظهرها، وهي تسير بنا في فلكها حول الشمس، لا تبطئ ولا تسرع بأكثر مما تستدعيه حال سكانها، ولا تصادم نجمًا أو ذنبًا لذوات الأذناب السابحة في الفضاء. فكانت الأرض لنا نعمت المطية المدربة والذلول المجربة) (1).
ب- ويقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج: 19 - 22].
(أما الخلق الذي فطر عليه الإنسان، فهو ما عبر عنه بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)} وأراد بالإنسان كل أفراده لا واحدًا منه، بدليل استثناء (المصلين) منه، والاستثناء معيار العموم، أما الهلوع فقد فسره الكتاب نفسه بقوله:{إِذَا مَسَّهُ الشَّرّ. . .} والمعنى أن الله خلق الإنسان، وغرس في نفسه منذ أول نشأته، هذا الخلق الذي هو (الهلع) فهو (إذا مسه الشر) ونزل به المكروه، من فقر أو مرض أو خوف، كان (جزوعًا) فيستولي عليه اليأس والقنوط، ويحسب
(1) تفسير جزء تبارك ص 11 - 12.
أن ما نزل به غير مقلع عنه، فالفقر لا يعقبه غنى، والمرض لا تخلفه صحة، والخوف لا ينسخه أمن، وكثيرًا ما قاده يأسه هذا إلى ارتكاب معصية أو منكر وقتل نفسه أحيانًا. {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} وتيسرت له أسباب الرغد وغضارة العيش، فأصبح غنيًّا موسعًا عليه في الرزق صحيح الجسم معافى، موقور الجانب نافذ الكلمة، ذا جاه ومنصب كان إذ ذلك {مَنُوعًا} ، يمنع الناس رفده ومعونته والانتفاع بجاهه، فهو من غلبة هذا الخلق عليه، يحسب أن ما أوتيه من الخير والرزق والنعمة، لم يؤت إلا لكلونه مستحقًّا له بذاته لا بفضل الله، فيطغى على الناس، ويكفر النعم، فلا يشكر لله عليها بوضعها في مواضعها، بل قد يستخف بها أحيانًا، فيحسب أنه مستحق لأكثر منها، وربما تدرج من هنا إلى إيذاء خلطائه والبغي عليهم، وغمط حقوقهم، وهذا هو البطر، وصاحبه هو المنوع الذي حكى الله عنه في هذه الآية.
خلق الإنسان، منذ أول نشأته، مفطورًا على (الهلع)، ولكنه تعالى لطف به، فخلق في نفسه إلى جانب هذا الهلع مواهب سامية، كالعقل وغريزة التدين، وكآيات الوحي (1)، التي كان يتلقاها الأنبياء، فيعالجون بها ضعف الإنسان ويلطفون من سورة هلعه، ومن ذلك الصلاة التي هي عماد التدين، وأكبر مظهر من مظاهر عاطفته، وهذا معنى قوله:{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} ، استثناهم من أفراد الإنسان الملوثين بالهلع، فالمصلون بما واظبوا على صلواتهم، وتعرضوا لنفحات ربهم، وهم يناجون فيها -فلا يجزعون إذا مسهم الشر، ولا يمنعون إذا مسهم الخير) (2).
جـ - ويقول في تفسير قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} [الإنسان: 7] من سورة الإنسان (3): (أما الخصلة الثالثة التي استحق بها الأبرار
(1) هذه العبارة دليل على تأثره بالاعتزال كما سيظهر فيما بعد.
(2)
تفسير جزء تبارك ص 109 - 110.
(3)
ص 260.
رضاء الله وكرامته، فهي الوفاء بالنذر. وأنت ترى أنه خص هذه الخصلة بالتقديم على الخصلتين الأخريين، وليس ذلك لأن المراد بها، أن ينذر المؤمن لله صيام يومين، أو صلاة ركعتين أو إطعام رغيفين، ثم يفعل ما نذره ليس المراد ذلك، وإن كان الوفاء بما ذكرنا مطلوبًا شرعًا، وإنما المراد بالوفاء بالنذر، الذي جعله الله من صفات الأبرار في قوله تعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قوة الإرادة، فلا يأخذ على نفسه عمل خير، أو ممارسة فضيلة أو قيامًا بأمر نافع له أو لقومه دنيا وأخرى -إلا أمضاه ووفى به، ويدخل في ذلك الوفاء بما نذر من قربة أو طاعة. أما أن الواحد منا، يفكر في عمل صالح ينفع قومه، ويعلن أنه يريد القيام به والإقدام عليه، ثم يتقاعس عنه ويفتر، ويماطل إذا سئل عنه ويعتذر، فهذا هو ضعف الإرادة الذي عابه القرآن في غير ما موضع من آياته، ولم يجعله من خصال الأبرار الذين يستحقون دخول جناته. قال ابن جرير في تفسيره: (والنذر هو كل ما أوجبه الإنسان علي نفسه من فعل، ومنه قول عنترة:
الشاتميْ عِرْضِي ولم أَشْتِمْهُمَا. . . وَالناذِرَيْن إذا لم ألقهما دمي
ولا يخفى أن سفك دم عنترة، الذي نذره أبناء ضمضم ليس من القربات في شيء، فهذا هو النذر في لغة العرب، وهذا هو طريق استعماله لحين نزول القرآن، ثم لما شاع استعماله في نذر القربات، لم يعد يفهم منه إلا نذر هذه الأشياء، ككثير من كلمات اللغة الواردة في القرآن والسنّة، اختلفت معانيها باختلاف الزمان وعلى المفسر المتقن أن ينتبه إلى ذلك الاختلاف (1) وليفطن أن الوفاء بالنذر الذي مدحه القرآن في هذه الآية، عبارة عن قوة الإرادة التي من آثارها إبراز كل عمل صالح نافع إلى ساحة الوجود، بعد أن جرى التصميم عليه في ساحة الفكر، وإن لم يبرزه المفكر، لم يكن موفيًا بالنذر، ولم يكن من الأبرار الذين تصدق عليهم هذه الآية، بل تصدق عليهم آية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
(1) قول الشيخ هذا يفقد عنصري الدقة والموضوعية.
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2 - 3].
د - وها هو الشيخ عبد القادر رحمه الله، يجلى لنا روعة البيان القرآني في تشبيهاته، بأسلوب جذاب فيه الحركة والحيوية موشيًا ذلك بأقوال العرب في أشعارها، نستمع إليه عند تفسير قول الله {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالتٌ صُفْرٌ (33)} من سورة المرسلات يقول: فهم المخاطب من أوصاف الظل في الآية السابقة أنه ظل جهنمي، وأن المراد به الدخان المنعقد في سماء جهنم، فلم يتردد في كون ضمير (إنها ترمي المؤنث) -عائدًا إلى جهنم أو دار العذاب، على أنه يصح أن يرجع الضمير المذكور إلى قوله (ثلاث شعب)، التي قلنا إن المراد بها ذوائب اليحموم المتكاثف، في سماء تلك الدار، فهو دخان لا كالدواخن المعقودة، وله صفات غريبة غير معهودة، من ذلك (أنها) أي شعب اليحموم وذوائبه (ترمي) على المستظلين بها من آونة إلى أخرى.
(بشرر) جمع شررة، وهي ما يتطاير من النار أثناء تلظيها، وكل واحدة من هذا الشرر (كالقصر) أي كالبيت المبني، وقد يستعظم السامع هذا الوصف، ويستغرب تشبيه الشرر بالقصر، لأنه إنما يفهم من القصر حسب المشهور في معناه -البناء العظيم المشرف، فيقول: كيف تكون الشررة الواحدة المتساقطة من ذلك الدخان، أو من تلك النيران كالقصر؟ بل ربما ذهب خياله إلى قصور الملوك الباذخة ذات الشرف والقمم والأبراج الشامخة، فيستغرب الوصف ويستبعد الأمر، ولكن القصر إن كان يطلق في لغة العرب على هذا الضرب من المساكن الشامخة، فإنه يطلق على كل بيت من حجر ولو كان صغيرًا لائطًا. بل قال ابن عباس رضي الله عنهما:(إن تشبيه الشرر بالقصور وارد على ما هو المعتاد في بلاد العرب، من جعل قصورهم قصيرة السمك -أي قليلة الارتفاع- جارية في هيئاتها وشكلها مجرى الخيام) وقد لمح أبو العلاء المعري
قول ابن عباس هذا، فقال يصف نارًا عظيمة، ويشبه شررها بالخيام:
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى. . . ترمي بكل شرارةٍ كطرافِ (1)
وقد فسر بعضهم (القَصْر) الذي شبهت به الشرارة بجزل الحطب، أي الغليظ من أعواده، وكأن هذا القائل استبعد أن يكون المراد بالقصر البيت الحجري لما ذكرنا آنفًا، مع أن تفسيره به من أحسن التشابيه وأشدها انطباقًا على ما كان مألوفًا للعرب في ذلك العهد، وكثيرًا ما شبه شعراؤهم النياق بالقصور.
قال عنترة:
فوقفتُ فيها ناقتي فكأنها. . . فَدَنٌ (2) لأقضي حاجةَ المتلَوِّمِ
وقال امرؤ القيس:
ولما أن جرى سمن عليها. . . كما طينت بالفدن السِّيَاعا (3)
يريد أن ناقته لما سمنت، كان اللحم متراكبًا عليها، تراكب الطين على جدران القصر.
وقال الأخطل:
كأنها برج رومي يشيده. . . لُزَّ بِجِصِّ وآجرٍّ وأحجار
وقالوا في وصف نياق أو أفراس: (إن وقفن فمَجَادل، أو مررن فأجادل والمجادل القصور والأجادل الصقور).
ثم ذكر الكتاب لشرر جهنم تشبيهًا آخر، غير تشبيهها بالقصر، قال:{كَأَنَّهُ جِمَالتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33]، أي كأن شرر جهنم المتطاير عنها (جمالات)
(1) الطراف: الخيمة من الجلد المدبوغ.
(2)
فدن: قصر.
(3)
السياع: الطين بالتبن.
جمع جمل وهو الحيوان المعروف، كما قالوا رجل رجال ثم رجالات، ومن جموع جمل أيضًا جمالة، وقرئ به أيضًا، {كَأَنَّهُ جِمَالتٌ صُفْرٌ} ، شبه الشرارات بالجمالات في عظمها ولونها، ثم في كثرتها وانتشارها هنا وهناك، في المراعي وفي تتابع بعضها إثر بعض، وهي سائرة في قطارها، وهكذا الشرارات، تنبعث الشرارة إثر الشرارة، أثناء تلظي نارها.
و(الصفر) ذات اللون الأصفر المعروف، أو المراد بالصفرة هنا: السواد الضارب إلى الصفرة، فإن هذا اللون هو اللون الغالب في ألوان الإبل عند العرب، والعرب يستعملون وصف (الأصفر) فيما كان لونه كالذهب والزعفران، وفيما كان لونه أسود كالغراب والدخان، فهو من أسماء أو صفات الأضداد، حتى فسر بعضهم قوله تعالى في وصف بقرة بني إسرائيل {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} بأنها سوداء خالصة اللون، وكما جعل بعض المفسِّرين (القَصْر) في الآية بمعنى جذوع الحطب الضخم، لا البيوت المعروفة، كذلك جعل بعضهم (الجِمَالات) جمع الجمل بمعنى القلس، لا الحيوان المعروف، والقلس حبل السفينة الضخم).
وقال: إن الكتاب يشبِّه الشرر في تتابعه وتلاحقه، واتصال كل شرارة بأختها بحبال السفن الضخمة البالغة الغاية في الثخانة والطول، فشرارات نار دار العذاب في ضخامتها وتماسكها ولونها الأصفر الضارب إلى السواد -كالقلوس أي حبال السفن التي هذه صفتها، والحاصل أن الوحي الإلهي شبه شرار جهنم في كبرها ولونها بالقصور والجمال، أو بجذوع الحطب والحبال، ولا تعجب من قرن الجمال الصفر بالقصور الحمر في الذكر، ولا من الجمع بينها في التشبيه، فإنك إذا نظرت إلى قرية من قرى العرب وقصورها، أي أبياتها الصغيرة اللائطة، المحمرة والمصفرة بلون طينها أو ترابها أو حجارتها، وهي منتشرة هنا وهناك في جنبات السهل الأفيح، ويتخللها أو يسرح في كل جانب
من جوانبها، نياق وجمال مصفرة اللون أو مسودته، ترعى وتتناول بمشافرها أوراق الشيح والقيصوم، تارة هنا وطورًا هناك -إذا وقع نظرك على ذلك، لمحت من بعد في آن واحد أجسامًا صغيرة حمراء أو صفراء أو سوداء، تتراءى لك من خلال الكلأ والعشب الأخضر، هذه البيوت هنا وهذه الجمال هناك، في مشهد واحد، وإذ ذاك لا تعود تستبعد تشبيهه الشرارات الجهنمية، بتلك الأبيات والجمالات، ولا تستغرب قرنهما حقًّا في الذكر، بل تستحلي ذلك وتعجب به، وأمر هذه التشابيه ووقعها في النفوس، وقربها أو بعدها من الأذواق، مرجعه الألفة والاعتياد، ومقدار تأثر الحواس والمشاعر بها، وهذه منشأ خطأ الكثيرين، لا سيما الذين يجهلون أحوال العرب، وأطوار معايشها وأساليب حياتها، في حكمهم على القرآن وبلاغته
…
يرونه يصفُ وصفًا، أو يطلق قولًا، أو يورد تشبيهًا أو يحكي قصة غير مألوفة لنا اليوم، ولا مما جرينا عليه في أساليب كلامنا، ولا مما اعتدنا أن نشعر به في حياتنا وأطوار اجتماعنا، ويكون السبب في قصور حكمهم مخالفة ما نحن عليه لما عند أولئك العرب المخاطبين بالقرآن الذي روعي في آياته وأساليب خطابه، ما اعتادوه وألفوه هم، كما قال ابن عباس في تشبيهه شرر الناس بالقصور:(إنه وارد على ما هو المعتاد في بلاد العرب، من جعل قصورهم قصيرة السمك، جارية في هيئتها وشكلها مجرى الخيام)، ولعل ابن عباس إنما قال هذا، بعد أن رأى قصور الشام والعراق، التي يستحلي شعراؤهم أن يشبهوها -منذ يرونها مبثوثة بين المروج- بالدرّ بين الزبرجد.
قال شاعرهم:
لاحت قراها بين خضرة مرجها. . . كالدرّ بين زبرجدٍ مكنون (1)
هذا هو الشيخ عبد القادر في أسلوبه، وهو يصدر المعاني كأنما قلمه ريشة فنان، ولكن هذا لا يُكتفى به، ليعطي صورة صحيحة عن مفسر القرآن. وإذا
(1) تفسير جزء تبارك ص 291 - 294.