الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: حول منهجه في التفسير الموضوعي:
لقد سبق في حديثنا عن منهج سيد وطريقته في التفسير أن أشرنا إلى شيء من منهجه في التفسير الموضوعي وكيف يقسم السورة ويتحدث عنها وفق هذا التقسيم.
ونحن نؤكد هنا أن جهود سيد في هذا المجال كان لها أكبر الأثر في توجيه أنظار الدارسين من بعده للبحث في هذه القضايا الموضوعية في تفسير القرآن الكريم.
وسيد لم يكن هو من ابتدع هذا الفنّ لكننا نجده أكثر من أجاد تطبيقه في القرآن كله.
ومع تأكيدنا أن استشراف القضايا المتعلقة بهذا النوع من التفسير مرجعه إلى الاجتهاد والتدبر وطول التأمل، فإننا نعلم حينها مدى ما يمكن أن تختلف وتتباين فيه أنظار الباحثين والعلماء في هذا المجال، وقد يفتح الله تعالى لبعض عباده في هذا المجال، وقد سار سيد قطب رحمه الله في هذا المجال وفق اجتهاد وما يراه من خلال تدبره لآيات الكتاب العزيز.
ونرى المؤلف في عرضه لجهود سيد قطب في التفسير الموضوع يقول تارة أنه (قد حكمت النظرة السريعة تقريره -سيد- للوحدة الموضوعية في بعض السور)(ص 127). وتارة أخرى يقول (أن الذي قاله سيد في الوحدة الموضوعية ليس هو القول الفصل
…
إلخ (ص 158).
وأود هنا أن أسجل ملحوظات الدكتور زياد الدغامين على جهود سيد قطب في مجال حديثه عن الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية ثم أناقش ما يحتاج إلى ذلك وقبل الوقوف مع هذه الملاحظات لا بد من تسجيل بعض القضايا المنهجية على كلام الدكتور الدغامين فيما وصف به جهود سيد قطب:
1 -
في مجال رده على كلام الدكتور صلاح الخالدي في حديثه عن أسباب نجاح سيد في القول بالوحدة الموضوعية حيث ذكر الخالدي من ذلك (حياة سيد الطويلة التي قضاها في ظلال القرآن) يرى الدكتور الدغامين أن هذا من الأسباب غير العلمية.
يقول (هذا فضلًا عن كونها أسبابًا غير علمية، فهل الحياة الطويلة مع القرآن اقتصرت في تاريخنا الإسلامي على حياة سيد رحمه الله؟ فكم من عالم وعالم كان القرآن شغله الشاغل، لكن هذا لا يستلزم القول بالوحدة الموضوعية في سور القرآن، وهل جرد سيد حياته مع القرآن من أجل البحث عن الوحدة الموضوعية في سُوَرِه؟ ) ص 127.
ولا ندري على هذا -ما هي الأسباب العلمية التي تؤهل لاستكشاف الوحدة الموضوعية في سور القرآن الكريم والبحث عن مناسبة السور والآيات؟ ! ! .
ونحن نؤكد أن من الأسباب العلمية - في هذا المجال - التدبر لآيات الكتاب الكريم وطول التأمل مع ما يرافقه من أسباب أخرى، وتوفيق الله تعالى فوق ذلك كله.
2 -
وإذا كان الدكتور الدغامين يرى أن سيد (قد حكمت النظرة السريعة تقريره للوحدة الموضوعية في بعض السور، وكان -أحيانًا- يفسر جزءًا من القرآن في شهرين، في حين كان البقاعي ينظر في مناسبة آية شهورًا) ص 127.
فإن ذلك ليس مأخذًا على سيد، إذ القضية ليست قضية زمن طويل أو قصير.
3 -
والدكتور الدغامين يرى (أن الذي قاله سيد في الوحدة الموضوعية ليس هو القول الفصل، وأن ما ذهب إليه في ذلك ليس هو المذهب الجزل في كثير من السور، مع أن له جهدًا عميقًا وكبيرًا لا يستهان به في هذا المضمار) ص 128.
أقول: من الذي يدعي أن ما قاله سيد هو القول الفصل؟ وأظن أن سيدًا نفسه لا يمكن أن يدعي ذلك، إنما هذه أمور اجتهادية، ولا شيء يمنع أن تختلف فيها الأنظار وتتعدد.
4 -
ثم يعلق الدكتور زياد على جهود سيد فيقول: (هذا الجهد يفتقر أحيانًا إلى المنهج الواضح، أو الالتزام بمنهج منضبط) ص 128.
فهو يرى أن هذا الجهد يفتقر أحيانًا إلى المنهج الواضح، ونحن نريد أن نرى هذا المنهج الواضح الذي افتقر إليه جهد سيد، ولم نجد الدكتور زياد الدغامين قد حدد لنا معالم هذا المنهج الذي يجب أن يضبط جهود العلماء في تقرير الوحدة الموضوعية والقضايا الموضوعية للسور القرآنية.
وما ذكره الدكتور الدغامين في آخر كتابه من خطوات عدها منهجية لتحديد الوحدة الموضوعية في سور القرآن لا نجد أبدًا أن سيدًا قد افتقر إليها.
بل إن هذه الخطوات يمكن استقاؤها من خلال جهود سيد رحمه الله تعالى.
بل إن ما ذكره الدكتور الدغامين في حديثه عن (الوحدة الموضوعية) والنقاط التي ذكرها، وكذلك النموذج التطبيقي الذي أتى به، كل ذلك يحتاج إلى نقاش، بل هو غير مسلم، بل فيه بعد، ويصعب على الدارس أن يتقبله، إن تقريره للوحدة الموضوعية في سورة الحجر، يصعب أن يتقبله الذي تشبع بالقرآن الكريم، وملك عليه القرآن مشاعره وأحاسيسه.
والدكتور يرى أيضًا أن هذه الجهود تفتقر إلى (الالتزام بمنهج منضبط)، ونحن لم نجد أي تناقض في آراء سيد حول الملامح الشخصية للسور القرآنية، ولم نجده يناقض أيضًا نفسه في تقرير هذه الملامح، بل هو ينظر في كل سورة بما يتناسب واسمها وآياتها وروابط آياتها، وقد سبق أن ذكرنا أن هذه من القضايا الاجتهادية فما كان يتوصل إليه، كان من خلال منهجه الذي قرره لنفسه في تحديد شخصية السورة -وليس وحدتها الموضوعية- والذي لم يصرح به لكنه يظهر جليًّا من خلال تفسيره.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن العلماء لم يتفقوا على القول بالوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، ففي الوقت الذي يثبت فيه بعضهم تلك القضية نجد من لا يلتفت إليها ولا ينص عليها.
وسيد قطب نفسه ومن قبله الدكتور محمد عبد الله دراز لم يدَّع أحد منهما الوحدة الموضوعية للسورة، وإن كان قد تحدث كل واحد منهما عن ملامح وشخصية السورة القرآنية.
نعود الآن إلى بعض الملاحظات التي سجلها الدكتور زياد على جهود سيد قطب في هذا المجال:
1 -
يقول الدكتور زياد إن سيدًا (واجه صعوبة ملحوظة في تحديده لموضوع السور المكية على الإطلاق، فكم من سورة ذكر أنها تعالج موضوعات القرآن المكي) ص 128.
وهذا الكلام يحتاج إلى دليل أو تصريح من صاحب الشأن، وليس ذلك بممكن، ولا يجوز أن نعدّ الدليل على ذلك اختياره لموضوع واحد تحدده أكثر من سورة.
فكونه يرى أن أكثر من سورة تعالج موضوعًا واحدًا أو موضوعات متقاربة لا يعني أبدًا أنه واجه صعوبة ملحوظة في تحديده لموضوع السور المكية على الإطلاق، ونحن نعلم -كما أسلفنا- أن هذه الأمور مردها إلى الاجتهاد، وكان هذا رأيه في ذلك.
ثم إن سيدًا كان يصرح بهذا الاتفاق في الموضوع أو التقارب في الموضوعات، مما يدل على أن هذا رأيه، وليس ذلك تابعًا عن صعوبة في تحديد الموضوع، وهو يقرر أيضًا أن الجديد هو أسلوب العرض في كل سورة، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان.
والدكتور الدغامين يعلق في هذا المجال ويبين أنه (على ذلك يصبح المميز للسورة هو أسلوبها وطريقة عرضها وليس موضوعها، ومن ثم لا يمكن الاعتداد بالوحدة الموضوعية في السورة) ص 129.
وهذا كلام غريب، فما المانع أن يكون المميز للسورة هو أسلوبها وطريقة عرضها، وهل يمنع هذا أن يكون للسورة موضوع معين قد تتفق فيه مع سورة أخرى أو أكثر عن سورة في بعض، جوانبه.
ونحن نعلم أن من أسلوب القرآن الكريم أن يعرض بعض الموضوعات المهمة كقضايا العقيدة أكثر من مرة، وكل مرة بأسلوب جديد لغاية جديدة.
ثم من قال إن اتفاق بعض السور في موضوع واحد يمنع من الاعتداد بالوحدة الموضوعية، وهل الوحدة الموضوعية -على ما قلناه في الوحدة الموضوعية من قبل- يحتمه الوحي ويفرضه الشرع ويمنع من مخالفته؟ .
إن هذه القضايا يجب أن تجلى وتوضح في أذهان كثير من الدارسين حتى لا تزلّ أقدامهم عن طريق الحق في نظرتهم لجهود العلماء.
2 -
ونرى أيضًا أن الدكتور الدغامين يلاحظ على سيد قطب في تحديده للوحدة الموضوعية لسور القرآن تشابه سور معدودة في موضوعها وطريقة عرضها وإيقاعها) ص 129.
وأتساءل هنا: هل هذه قضية يعاب بها سيد وجهوده؟ إن اجتهاد سيد قد أوصله إلى هذا الرأي، وهو لا يرى مانعًا من هذا التشابه أو التقارب، والدكتور زياد لما كان يرى غير ذلك -وهو رأي اجتهادي، حيث يرى أن لكل سورة موضوعًا واحدا فليس له الحق أن يعيب على غيره اجتهاده، ثم إن نظرته فيما طبقه على سورة الحجر لايسلم له فيها كما قلنا.
3 -
لكن الذي يحتاج إلى وقفة أطول ومراجعة أدق من كلام الدكتور زياد السابق هو حديثه عن أسلوب القرآن والاحتكام إليه:
يقول: وأرى كذلك أن الاحتكام إلى الأسلوب بحيث يكون هو المميز للسورة أمر مشكل، إذ يلزم كل باحث في سورة ما أن يبين كيفية الاختلاف من سورة إلى سورة في تناولها لموضوع ما من حيث أسلوبها، فلو درسنا موضوع البعث -الذي تناولته سور كثيرة جدًّا- في سورة (ق) مثلًا، فهل يلزمنا أن نبين الفرق في الأسلوب بين (ق) وتلك السور الكثيرة الأخرى التي تناولت موضوع البعث والنشور؟
وليعلم أنني لا أقلل بهذا من شان الذوق في فهم وإراك إعجاز القرآن. في نظمه ولغته وأسلوبه) ض 130.
والدكتور زياد يدافع عن نفسه -في عبارته الأخيرة- من حيث يرى نفسه متهمًا فيما قاله.
وهذا الكلام يحتاج من صاحبه إلى مراجعة وتوضيح، فنحن نعلم أن من أسرار إعجاز القرآن الكريم ما يعبر به عن الموضوع الواحد أو القضية الواحدة بأساليب متعددة في النظم القرآني.
وما المانع أن ندرس اختلاف النظم بين موقع وآخر في القرآن الكريم، في الموضوع الواحد؟ بل إن هذا من أعظم ما يكشف أسرار الإعجاز القرآني.
أقول: ونحن إذ نوافق الدكتور زيادًا في قوله عن جهود سيد في هذا الاتجاه إنها (كانت متقدمة إلى حد كبير) ص 134 إلا أننا لا نقره في كثير مما ذهب إليه في نظرته وتقييمه لهذه الجهود.
ومن الحق أن نقرر هنا أنه ليس سيّدٌ وحده الذي نال منه الدكتور زياد، بل إن هذا شأنه مع المفسرين جميعًا ابتداءً من ابن جرير إلى ما بعد سيد مثل ابن عاشور وغيره، ومع أن هذا لم أكن أعرفه من الدكتور زياد، فلقد درسته أكثر من مساق في المرحلة الجامعية الأولى وأشرفت على رسالته في المرحلة الجامعية الثانية -الماجستير- فكان المفسرون والعلماء موضع احترامه وتقديره وإجلاله، سامح الله الدكتور زيادًا، ونرجو له ولأمثاله الرفق بأئمتنا وعلمائنا.
وبعد فأكتفي بما ذكرته عن الظلال وموقف الكاتبين منه، وما أجمل الموقف الوسط الخالي من الإفراط والتفريط رحم الله صاحب الظلال وأرجو أن يكرمه الله بمراتب العلماء ونزل الشهداء، فقد جاء في الحديث الصحيح (يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء) ولقد كان سيد عالمًا شهيدًا، رحمه الله.