الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أذهانهم، وهذا الوجه من حكمة ورود المتشابه ظاهر فيما كان من قبيل الصفات ونحوها.
ب - مسائل العقيدة:
من خلال دراساتنا للتفاسير السابقة، رأينا أن بعضها قد تطرق في تأويل الآيات التي تمس العقيدة، كما فعلت المدرسة العقلية. وأراد بعضها الآخر أن يخضع بعض العقائد الغيبية لمجريات العلم وخداع الخرافة كما فعل الشيخ طنطاوي رحمه الله ومن سار على نهجه في تحضير الأرواح. ولكن الأستاذ الأكبر رحمه الله لم يجر مع هؤلاء، الذين خرجوا بالنص عن دائرة سياقة ولفظه. ولم يجر مع أولئك الذين ساروا وراء سراب الخرافة. ولم يكن الرجل سلبيًّا في موقفه هذا وإنما كان إيجابيًّا، لذا رأيناه يرد على كلا الفريقين منتصرًا لسلف هذه الأمة وأئمتها.
1 -
فها هو يرد على القائلين باب رؤية الله يوم القيامة بالعين الباصرة مستحيلة. يقول عند قوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55].
وقد يخطر على البال أن هذه الآية تصلح لأن تكون دليلًا على عدم صحة رؤية الله بالعين الباصرة يوم القيامة، فإن الذين طلبوها سلط الله عليهم الصاعقة كما سلط على عبَدة العجل القتل. ويُدفع هذا الخاطر بأن موسى عليه السلام قد علم أن رؤية الله ممكنة، فطلبها كما جاء في سورة الأعراف {قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] وأعلمه الله أن رؤيته في الدنيا بالأبصار لا تقع، وصار هذا أصلًا معروفًا عنده وعند قومه، ولكن بني إسرائيل سألوا الرؤية بالأبصار بعد علمهم بذلك تعنتًا، أو لشك خالجهم، فأخذهم الله بالصاعقة وهم ينظرون، عقوبة لهم على ما سألوا. وورد في الكتاب المجيد آيات تدل على أنه تعالى يُرى يوم القيامة كقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]. وورد أيضًا من الآيات ما يدل بظاهره على نفيها، ولكن الآيات المثبتة تأيدت بأحاديث صحيحة، فوجب المصير إليها، وفهمُ الآيات الأخرى على وجه يوافق الآيات المؤيَّدة
بالأحاديث الصحيحة الصريحة.
2 -
وعند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} يقول:
"والإيمان بالله: التصديق بما لا تتم معرفته إلا به، وهي الصفات الواجبة له تعالى من نحو الوحدانية والقدم والبقاء والعلم والغنى المطلق. ومن اعتقد أن الله حلّ في غيره أو اتحد به، فقد عمي عن سبيل النجاة، واستبدل بالإيمان جحودًا"(1).
3 -
وها هو يرد على الذين قالوا بالتمثيل في قصة آدم بقوله (2): "ويجدر بنا أن ننبه لرأي أبداه بعض من كتب في التفسير منذ عهد قريب، وهو أن هذه القصة واردة على وجه التمثيل، لا أنها إخبار عن حقائق واقعة، وبسط القول في تقرير كونها تمثيلًا بما لا يسع المقام حكايته. والحقيقة أن القصة سيقت على وجهٍ ظاهر في أنها واقعة. وتأويل آيات القصص على أنها من قبيل التمثيل، لا يلجأ إليه إلا أن يكون حملها على المعنى الظاهر متعذرًا، ولم يقم دليل شرعي أو عقلي يقتضي العدول في تفسير هذه القصة عن الظاهر من سياقها، حتى يسهل صرف ألفاظها عن حقائقها، وتقبل دعوى أنها خارجة مخرج التمثيل والقصة مع كونها حقيقة واقعة، تنطوي على حكم شائقة وعبر لامعة، يجدها المتدبر لكتاب الله قريبة المنال، غزيرة المثال".
4 -
كما يقول عن إبليس (3): "وإبليس: اسم للشيطان أعجمي، وهو كائن حي. وقد أخطأ وجه الحق من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر بالنفوس. وليس من المعقول أن تحمل عليه الآيات وهي صريحة في أنه كان يقول ويقال له، ويرى الناس ولا يرونه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
(1) أسرار التنزيل ص 276.
(2)
أسرار التنزيل ص 93.
(3)
لواء الإسلام العدد العاشر السنة الأولى ص 6 - 7.
5 -
أما مسألة الأرواح التي كثر الحديث عنها، ومع كل أسف في كتب التفسير، كما رأينا في الجواهر وتفسير المراغي، وتفسير الأستاذ أحمد مظهر العظمة - الذي سنتحدث عنه فيما بعد إن شاء الله، فإن الشيخ الخضر رحمه الله يكتب عنها، من أجل تثبيت عقيدة المسلم، مفندًا رادًّا كل دعوى من هذا القبيل.
يقول (1): "فلا نتوقف في الإيمان بالأرواح والجن على أن يثبتهما العلم البحت، ويكفينا أنه لا يستطيع نفيهما بدليل منطقي يسلمه العقل إذا خلا ونفسه. فدعوى أن روح فلان أو فلان الميت بعينها، يقتادها فلان من مستقرها، ويضعها بين أيدي المتجمعين حوله للتسلية، وتحدثهم عن حالها أو حال غيرها في الدنيا أو بعد الموت، لم تجئنا مصحوبة بدليل سوى أن فلانًا الأوروبي قال أو جرب أو ألف. وهذا النوع من الاستدلال لا يغني في مسألة كمسألة الأرواح فتيلًا. ولماذا لا تكون هذه الأرواح التي تستحضر من قبيل الأرواح الخفية التي هي الجن؟ وهذه الأرواح ليست مبرأة من أن تضلل أو تقول باطلًا.
وكيف يكون حال المسلم إذا قال له "محضر الأرواح": هذه روح فلان الذي مات على عقيدة الوثنية أو غيرها من الأديان الباطلة، ويسمع من هذه الروح أن صاحبها في نعيم وسعادة؟ ! أيرتاب في دينه، أم يكذب أن هذه روح فلان الكافر بحكم دينه! ! والحق أن الله لم يجعل للعلم بأحوال الموتى من سبيل، غير ما دل عليه كتابه العزيز، أو أخبر عنه النبي المعصوم".
والشيخ بعد ذلك كله سلفي في عقيدته، ولكنه ليس من أولئك المتزمتين، الذين لا هم لهم إلا غمز الأئمة والنيل من الصالحين. وها هو في كل ما فسر يتبع هذا النهج. يظهر هذا في تفسيره للرحمة والغضب في سورة الفاتحة والاستواء في سورة البقرة.
(1) لواء الإسلام العدد الأول السنة الرابعة ص 63 - 64.
يقول عند قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هما صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة في أصل اللغة: رقة في القلب تقتضي الإحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفًا لله تعالى، ففسرها بعض العلماء بإرادة الإحسان، وفسرها آخرون بالإحسان نفسه، والموافق لمذهب السلف أن يقال: هي صفة قائمة بذاته تعالى لا نعرف حقيقتهما، وإنما نعرف أثرها الذي هو الإحسان.
وليست الصفتان، أعني الرحمن الرحيم بمعنى واحد بل روعي في كل منهما معنى، ولم يراع في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فَعلان صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته، ولا يلزم منه الدوام كغضبان وسكران، والرحيم بمعنى دائم الرحمة؛ لأن صيغة فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف، فكأنه قيل العظيم الرحمة الدائمها. وذهب ابن قيم الجوزية في الفرق بين الصفتين إلى أن الرحمن دالة على الصفة القائمة به تعالى، والرحيم دالٌّ على تعلقها بالمرحوم، فيكون الرحمن من صفات الذات، والرحيم من صفات الأفعال" (1).
ويقول في صفة الغضب: "والغضب ضد الرضا، وهو في أصل اللغة حركة في النفس تنزع بها إلى طلب الانتقام، وإذا أسند إلى الله فسروه بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه، والموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له تعالى لائقة بجلاله، لا نعلم حقيقتها وإنما نعرف أثرها وهو الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم) (2).
ويقول في صفة الاستواء: "استوى أقبل وعمد إليها بإرادته، وتسويتها تعديل خلقها وتقويمه"(3).
(1) أسرار التنزيل ص 7، 8.
(2)
ص 11.
(3)
ص 52.