الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطر الكلمة:
فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال (1)، ولو كلمة واحدة:
فرب كلمة واحدة أوقدت حربًا، وأهلكت شعبًا، أو شعوبًا.
ورب كلمة واحدة أنزلت أمنا وأنقذت أمة أو أممًا.
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: "الكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار ولو بكلمة طيبة".
ضرورة الأدب الإسلامي:
وهذا الأدب الإسلامي - وهو التروي عند القول، واجتناب السيء واختيار الأحسن - ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب، وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول -:"المسلم أخو المسلم" - إلا بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروي عند القول والتعمد السيء، بل للأسوأ في بعض الأحيان.
التحذير من كيد العدو الفتان:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} .
(نزغ الشيطان) وسوسته ليهيج الشر والفساد. وعداوته باعتقاده البغيض، وسعيه في جلب الشر والضر. وإبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
(1) ورب كلمة حق يرفع الله بها الدرجات، ورب كلمة سوء تهوي بصاحبها في الدركات.
كيف ينزغ الشيطان:
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، ويهيج غضبه ليقولها، ويهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الشر والفساد.
ولون آخر من نزغه، وهو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليه في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح - حتى يقولها. فإذا قالها عاد لسامعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منها، ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، ولهيج غضبه، حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا، وإذا سمعوا فيتباعدون عما فيه احتمال السوء، فضلًا عن صريحة ويحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، ويتجاوزون عن سيئه الصريح ما أمكن التجاوز.
المحاسنة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله تعالى في العواقب والسرائر: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} .
وجادلهم بالتي هي أحسن:
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة.
وأقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضًا أو يفسقه أو يكفره، فيكون ذلك سببًا لزيادة شقة الخلاف اتساعا، وتمسك كل برأيه ونفوره من قول خصمة. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر.
فذكر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه وسرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، بحكمته وعدله:
فلا يقطع لأحد بأنه من أهل النار لجهل العاقبة سواء كان من أهل الكفر، أو كان
من أهل الفسق، أو كان من أهل الابتداع (1).
كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلا من جاء النص بهم (2).
من أدب الجدال:
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته: إنك من أهل النار، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر، وسوء عاقبته.
ولا يقال للمبتدع: يا ضال (3)، وإنما تبين البدعة وقبحها.
ولا يقال لمرتكب الكبيرة (4): يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة وضررها وعظم إثمها.
فتقبح القبائح والرذائل في نفسها، وتجتنب أشخاص مرتكبها (5).
إذ رب شخص هو اليوم من أهل الكفر والضلال، تكون عاقبته إلى الخير والكمال. ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان، ينقلب - والعياذ بالله تعالى - على عقبه في هاوية الوبال.
وإن عليك إلا البلاغ:
وخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لم يرسله وكيلًا على الخلق، حفيظًا عليهم، كفيلًا بأعمالهم.
(1) فقد يعمل الرجل بعمل أهل الجنة حتى يكون بينه وبين الجنة ذراع، ثم يعمل بعمل أهل النار، فيكون من أهل النار.
وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهل الجنة
…
كما حكى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فسبحان مقلب القلوب، وهو الغفور الرحيم.
(2)
كالمبشرين بالجنة أو أهل بدر، والشهداء في سبيل الله.
(3)
إذ ربما أهاجه ذلك فيزداد في طغيانه وكفره.
(4)
وذلك من أدب الدعوة.
(5)
كما ذكر في هامش 1.