الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخزي المبين، هذا كله سر هذه الآية، ثم قال تعالى:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} من أنصار، يمنعون العذاب عنكم، والاستعباد والاختلال واستنزاف الثروة وحلول الفقر بكم في الدنيا، {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} أي ثم لا تجدون لكم من ينصركم ويخلصهم من عقاب الله، أي عذاب يوم القيامة، وفي الدنيا الذي هو مقدمة لعذاب الآخرة وفيه وعيد لمن ركن إلى الظلمة أو رضي بأعمالهم.
ومن عجيب الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (شيبتني هود وأخواتها) ولعمرك ما شيبته هود وأخواتها، إلا لما في هذه السورة من العذاب، الذي حاق بالأمة الإسلامية أسوة بالأمم الأخرى) (1).
أفبعد هذا يمكننا أن ندّعي بأن تفسير الشيخ طنطاوي ليس فيه شيء من التفسير! إنه لإجحاف وظلم أن نقول مثل هذا، وقد رأيناه لا يهمل في كثير من الأحيان الأمور الاصطلاحية كإعراب بعض الآيات.
2 - هل أخضع القرآن للنظريات الحديثة:
أما السؤال الثاني، وهو هل فسّر الشيخ طنطاوي القرآن حسب النظريات الحديثة، مخضعًا إياه لهذه النظريات مهما تكلف لذلك؟ .
إن من الخير أن نأتي بكلام الشيخ طنطاوي نفسه، للإجابة عن هذا السؤال، يقول رحمه الله:(حاشا لله أن أؤيد قديمًا أو حديثًا، وإنما القرآن طبقناه على المذهب القديم، ثم ظهر بطلان ذلك المذهب وجاء الحديث، فوجدناه أقرب إليه، وإلا فهو أعلى منهما وأعظم، وما يدرينا أن يكون هناك مذاهب ستحدث في المستقبل، فهل القرآن كرة طرحت تتلقفها رجل رجل! كلا، إنما هذا التطبيق الذي ذكرته، ليطمئن قلب المسلم، وليعلم أن عمل الله وصنعه لا ينافي كلامه، فالتطبيق للاطمئنان)(2).
(1) الجواهر جـ 6 ص 190 - 192.
(2)
الجراهر جـ 1 ص 50.
ولعل من الخير بعد هذا النص، أن ننظر في تفسير بعض الآيات التي يغلب الظن بأن الشيخ قد خرج فيها عن خطها الصحيح، وأخضعها لنظريات العلم، وأعني بها تلك الآيات التي يحلو للكثيرين، أن يستدلوا بها على أمور كونية خاصة:
1 -
فها هو في تفسيره لقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30].
يقول: (يقول الله {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي أو لم يعلموا {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا}، ذواتي رتق أو مرتوقتين، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، أي ملتحمتين متصلتين، {فَفَتَقْنَاهُمَا} ففصلناهما وأزلنا اتحادهما، كما ثبت من أهل أوروبا في هذه العصور، إذ هم الذين قرروا هذا العلم، وقالوا إن الشمس كانت كرة تشبه بالنار، دائرة ملايين من السنين، والأرض والسيارات وتوابعها كانت معها، ثم إن أرضنا انفصلت كما انفصل غيرها من السيارات، انفصلن جميعًا من خط الاستواء الشمسي أثناء سرعة سير الشمس وجريها حول نفسها، فتباعدت أرضنا والأرضون الأخرى)
…
إلى أن يقول: (وهذا هو القول المشهور الآن في العالم الأوروبي، الكافر بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جهلًا به، فقوله تعالى على سبيل الاستفهام (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض، كانتا رتقا ففتقناهما .. ). من المعجزات، لأن هذا العلم لم يعرف عند العرب، ولا عند الأمم المعاصرين لهم، إنما عرف في عصرنا الحاضر).
2 -
يقول في تفسيره لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور: 43 - 44].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} يقول ألم تر أن الله يسوق سحابًا، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ} أي يضم بعضه إلى بعض، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} متراكبًا بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} من فتوقه، جمع خلل كجبال {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} من الغمام، وكل ما علاك فهو سماء {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا} ، من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها وألوانها، {مِنْ بَرَدٍ} (من) للتبعيض، واللتان قبلهما للابتداء، أن أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وذلك أن الأبخرة إذا تصاعدت وبلغت الطبقة الباردة من الهواء، فقوي البرد هناك، اجتمعت وصارت سحابًا، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرًا، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها، نزل ثلجًا وإلا نزل بردًا، وقد يبرد الهواء بما فيه من البخار بردًا مفرطًا، فينقبض وينعقد بخاره سحابًا، وينزل منه المطر والثلج، وهذا المقام قد أوضحته في سورة الرعد، وسيتضح قريبًا {فَيُصِيبُ بِهِ} بالبرد {مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوء برقه {يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة، وذلك من العجائب أن السحاب الذي ضرب به المثل في تقوية الظلمة، يكون منه نور يكاد يذهب بالأبصار، فبهذا قد اشتق النور من الظلام، والهداية من الضلال، فالسحاب الذي ذكر مثلًا لظلمة أعمال الكافرين، أضاء الجو بنوره وأشرق في سائر الأقطار، وكاد يخطف الأبصار، ولذلك أعقبه بما هو من قبيله فقال:{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} بالمعاقبة بينهما، وبأن ينقص من أحدهما ما زاد في الآخر، ويتغير أحوالهما نورًا وظلمة وحرًا وبردًا وغير ذلك، كما كان السحاب ظلمة واشتق منه نور البرق الذي يبهر الأبصار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} لدلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله وحكمته) (1).
3 -
وكذلك يقول في تفسيره لقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون} [النمل: 88].
(1) الجواهر جـ 12 ص 191.
{وَتَرَى الْجِبَال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} قائمة واقفة، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتسوى بها، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد، لا يكاد يتبين حركتها {صُنْعَ اللَّهِ} مصدر مؤكد لنفسه، وهو مضمون الجملة المتقدمة {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي أحكم خلقه وسواه {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} عليم ببواطن الأفعال وظواهرها وهو المجازي عليها) (1).
هذا هو تفسيره لهذه الآية، وهو كما نرى ليس فيه خروج عن المألوف، ولا مخالفة لما هو معروف.
ولكننا حينما نعرض للطائفة التي يذكرها عقب التفسير اللفظي، والتي يبث فيها أفكاره وخواطره حينًا، وآلامه وآماله حينًا، وخيالاته ورمزيته حينًا آخر نجده يقول ضمن لطيفة خصصها لتلك الآية:(لأبين لك هذه اللطيفة العجيبة من عجائب القرآن، وهي أن هذه الآية بديعة الوضع محكمة الصنع، فإن التفسير المتقدم يناسب المتقدمين من الأمة الإسلامية، وإذا فسرت بأن الأرض دائرة حول الشمس، والجبال بالطبع سائرة معها، نراها الآن جامدة، وهي في الحقيقة جارية جريًا سريعًا جدًّا، فإن ذلك يناسب قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فهذا هو الإتقان، وإلا فالقيامة تخريب للعالم، والإتقان يناسب هذا التفسير)(2).
(ثم يذكر ضمن حكاية طويلة بأن الآية تحتمل هذين المعنيين، فإذا نظرنا إلى ما تقدمها من النفخ والفزع، ناسب إيراد المعنى الأول، وإذا نظرنا إلى نهايتها، ناسب المعنى الثاني، ثم يقول: (وإني لأعجب من هذا الوضع المتقن في الآيات، وكيف ناسب صدرها صدر هذه الأمة، وعجزها متأخريها أي
(1) الجواهر جـ 13 ص 233.
(2)
الجواهر جـ 13 ص 235.
العصريين
…
ولعمري هذه الحكمة العجيبة، جعل نظام كلامه كنظام فعله، فما أتقن الفعل وما أحسن القول) (1).
وهنا نجد الشيخ يرى هذا وأمثاله هو الإعجاز الذي هو بحاجة إلى أن يتبينه العلماء ويبينوه، يقول:(وعندي أن هذا وأمثاله هو الإعجاز، والحكم، لا التاكيد بإنَّ ولا الجناس والطباق ولا غيرها، ألا فليتق الله العلماء، وليبينوا للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)(2).
4 -
وفي قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 - 11] يقول:
1 -
يوم شدة ومجاعة فتقل الأمطار وبقلتها يظلم الهواء ويكثر الغبار.
2 -
أو يأتي شر غالب يعبر عنه العرب بلفظ دخان.
3 -
أو أن الجائع يخيل له أن بينه وبين السماء دُخانًا، ولقد قحط العرب حتى أكلوا جوف الكلاب وعظامها.
4 -
أو هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت سابقًا، وقد جاء في الحرب الكبرى التي بدأت سنة 1914 ميلادية، فإن الدخان كان فيها من أعظم الآلات الحربية) (3).
يتضح لنا من تفسير هذه الآيات الكريمة، أن المفسر الفاضل ليس شغوفًا بالخروج بظاهر القرآن عن صحيح المأثور ومقتضيات اللغة، وإنما كل حرصه أن يبين إعجاز القرآن العلمي، لمن خدعتهم المدنية الغربية، نعم ما ذكره في الآية الأولى ورد غيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما تقدم من قبل وسبق حديثنا
(1) الجواهر جـ 13 ص 236.
(2)
الجواهر جـ 21 ص 1236.
(3)
الجواهر جـ 21 ص 13.
عنه، أما الآية الثانية فنرى أنها على ظاهرها، وقد أبقاها كذلك، وجاء في تفسير الآية الثالثة بما قاله المفسرون، إلا أنه في لطائفه، ذكر وجها آخر تحتمله الآية كما يقول، وفي الآية الأخيرة أتى باقوال لا تخالف المأثور، اللهم إلا إذا اعتمدنا تفسير ابن مسعود للآية (1).
وإذن فليس تفسير الشيخ طنطاوي في معظمه، كما ادعي عليه ووصم به، من أنه خروج بالقرآن عن الظاهر والمأثور، ولكنه كان مولعًا بمشاهد الكون البديع صنع الله فيه، مشغوفًا بالبحث عن الأسرار في هذا الكون والحياة والإنسان، وهذا الذي ملك عليه لبه كما يرى القارى، لتفسيره في مواضع كثيرة، فهو يقول مثلًا:
(انظروا ما جاء في القرآن من الأدلة وأنواع التشبيهات، تروها تميل نحو المشاهدات وعلوم الطبيعة:
1 -
فإن أمر بالعبادة، قال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22].
2 -
وإن استدل على التوحيد قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164].
3 -
وإن طلب منا الشكر قال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} [النحل: 14].
4 -
وإن ذكر الإخلاص جعله كالجنات سقاها الغيث .. الخ الأمثال والدلالات فاعجب بعد ذلك أن ترى هذه الأمة نام علماؤها وقتلها وعاظها، أمة الإسلام هي الأمة التي أمرت أن تكون المزارع درسها، والحدائق علمها والشمس والقمر والنجوم والجال والأنهار آياتها، وما أصدق الشعراني إمام التصوف حيث قال: إن الإسلام في أول الزمان يكون شريعة، ثم في آخر الزمان يكون حقيقة -والحقيقة هي الأنفس والآفاق والنظر في هذه العجائب من شمس وقمر ونبات).
(1) تقدم في الفصل الرابع في الباب الأول.