الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات الله في كونه، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته، فكان من ذلكم تعدد المبصرين بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات الله في الآفاق، وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعًا شيء واحد، هي الحجة يناديهم بها المرسلون، والدليل يوضحه لهم النبيون. لذلك كان الناس جميعًا كأنهم على سمع واحد، فكان إفراد السمع إيذانًا من الله بأن حجته واحدة، ودليله واحد لا يتعدد.
ونرى القرآن هنا قدم القلب في الذكر على السمع، بينما في سورة الجاثية قدم السمع في الذكر على القلب فقال {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، ذلك لأنه سبحانه في سورة الجاثية، قد ذكر الختم معطوفًا على قوله {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ومن اتخذ إلهه هواه، يكون أول ما يبدو منه للناس ويعرف، هو إعراضه عن النصح ولى رأسه عن استماع الحجة، فكان مظهر عدم السماع منه أول ما يبدو للناظرين، فلذلك قدم السمع على القلب، وأما آيتنا هذه
…
فقد جاءت إثر الآية المختومة بقوله {لَا يُؤْمِنُونَ} ، والإيمان تصديق يقوم على الحجة والبرهان، وإدراك الحجة والبرهان إنما هو في القلب، فكان التعليل المتصل الواضح لنفي الإيمان، أن قلوبهم مغلقة لا تنفذ إليها الحجة، ولا يترسب إليها نور البرهان، لذلك قدم القلب على السمع)، وهذا كلام لا يرتاب أيّ قارئ في أنّه للأستاذ الشيخ أحمد سيد الكومي رحمه الله لأنه شذرات عن سمو في الفهم وقوة استنباط يكرم الله بهما من يشاء.
3 - الشفاعة:
وعند تفسيره قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] تحدثا عن الشفاعة فقالا: (الضمير في (منها) يعود إلى النفس المحاسبة في ذلك اليوم، والشفاعة: من الشفع ضد الوتر، وهي انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه، أي
لا يقبل منها أن تأتي بشفيع ليحصل لها نفعًا، أو يدفع عنها ضررًا، والآية الكريمة قد نفت قبول الشفاعة من أحد نفيًا مطلقًا، ولكن هناك آيات كريمة تنفي قبول الشفاعة إلا ممن أذن له الرحمن في ذلك من هذه الآيات قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109].
وللجمع بين هذه الآيات تحمل الآيات التي تنفي الشفاعة نفيًا مطلقًا، على أنها واردة في شأن النفس الكافرة، وتحمل الآيات التي تبيح الشفاعة على أنها واردة في شأن المؤمنين، إذا أذن الله فيها للشافعين، وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي، في أن النبي صلى الله عليه وسلم ستكون له شفاعة، في دفع العذاب عن أقوام مؤمنين، وتخفيفه عن أهل الكبائر من المسلمين، من ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت أنا إلى الناس عامة).
قال الإمام ابن جرير (وهذه الآية وإن كان مخرجها عامًا في التلاوة، فإن المراد بها خاص في التأويل، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. وأنه قال ليس من نبي: إلا وقد أعطي دعوة، وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئًا. فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين، بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم، عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم، وأن قوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل (1).
(1) 1/ 156 - 157.