الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التراكيب:
(إن) نافية. و"من" زيدت لاستغراق الجنس وتأكيد العموم.
و(إلا) أفادت مع إن النافية حصر كل قرية في أحد الأمرين من الهلاك والعذاب الشديد، ليعلم أن لا نجاة لكل قرية من أحدهما قطعًا.
و(أو) تفيد أحد الشيئين المذكورين على الإبهام وعدم التعيين.
و(ذلك) إشارة المذكور من الهلاك والتعذيب.
المعنى:
يقول تعالى: ما من قرية على وجه الأرض إلا ولا بد أن يحل بها منا هلاك وفناء بما يبيدها ويفنيها، أو عذاب شديد لا يفنيها، ولكنه يذيقها أنواع الآلام وشديد النكال.
كان هذا قضاء سابقًا في علمنا، ماضيًا في إرادتنا، مكتوبًا أسطارًا في اللوح المحفوظ.
الأحكام:
الأحكام الشرعية والقدرية:
أحكام الله تعالى قسمان:
أحكام شرعية: وهي التي فيها بيان ما شرعه لخلقه مما فيه انتظام أمرهم وحصول سعادتهم إذا ساروا عليه.
وأحكام قدرية وهي التي فيها بيان تصرفه في خلقه على وفق ما سبق في علمه وما سبق في إرادته.
والأحكام الشرعية تقع من العباد مخالفتها، فيتخلف مقتضاها من الفحل أو الترك.
والأحكام القدرية لا تتخلف أصلًا، ولا يخرج المخلوقات عن مقتضاها قطعًا.
وفي هذه الآية حكم من أحكامه القدرية، وهو أن كل قرية لا بد أن يصيبها أحد الأمرين المذكورين بما سبق من علمه، وما مضى من إرادته، فلا يتخلف هذا الحكم، ولا تخرج عنه قرية.
إيضاح وتعليل:
الله حكم عدل، حكيم خبير، ، فما من حكم من أحكامه الشرعية إلا وله حكمته، وما من حكم من أحكامه القدرية (1) إلا وله سببه وعلته.
لا لوجوب أو إيجاب عليه، بل بمحض مشيئته، ومقتضى عدله وحكمته (2).
سبب الهلاك:
وقد قضى على كل قرية بهذه العاقبة من الهلاك والعذاب الشديد في هذه الآية، وبيِّن في غيرها سبب استحقاقها لهما فقال تعالى:
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4].
فأفادت هذه الآيات أن سبب الهلاك والعذاب هو الظلم، والفساد، والعتو، والتمرد، عن أمر الله ورسله، والكفر بأنعم الله.
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
توجيه:
سر العناية بالطور الأخير:
الطور الأخير للأمم هو الذي ذكر في الآيات كثيرًا دون الطور الأول والثاني.
ووجه ذلك:
أنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد، ويعظم فيه الظلم، وينتهي فيه الإعذار للأمة، ويحل فيه أجلها، فينزل بها ما تستحقه من هلاك أو عذاب، فكرر ذكر هذا الطور لزيادة التحذير منه، والتخويف من سوء عاقبته، والحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع عن الظلم والفساد، والرجوع إلى طاعة الله وإعمال يد الإصلاح في جميع الشؤون فيرتفع العذاب بزوال ما كان بنزوله من أسباب.
استنتاج وتطبيق:
العلاج ممكن:
القرى التي قضى عليها بالهلاك والاستئصال هذه، قد انتهى أمرها بالموت، وفاتت عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة.
وأما القرى التي قضى عليها بالعذاب الشديد، فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن، وعلاجها متيسر:
مثل الأمم الإسلامية الحاضرة: فمما لا شك فيه أن فينا ظلمًا، وعتوًا وفسادًا وكفرا بأنعم الله، وإننا من جراء ذلك لفي عذاب شديد.
ولا نعني بهذا أن الأمم الإسلامية مخصوصة بهذا، بل مثلها وأقوى منها في أسباب العذاب والهلاك غيرها من أمم الأرض. وإن لهم لقسطهم من العذاب
الشديد. وإذا لم يأت المقدار المماثل من الهلاك أو العذاب لما عندهم من أسبابهما، ، فلأنه لكل أمة أجل، ولما يأت ذلك الأجل بعد، ، فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
إرشاد واستنهاض:
علاجنا اليوم:
قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقًا وقدرًا بمشيئته وحكمته، لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها، ونجتنبها باجتناب أسبابها.
وقد عرفنا في الآيات المتقدمة باسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم، أو نقلع عنها فننجو، فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب.
وقد ذكر لنا في كنابه أمة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعد ما كان ينزل بها، ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من المسبب، فقال تعالى:{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (1)[يونس: 98].
فبمبادرتهم للإيمان، وإقلاعهم عن الكفر. كشف عنهم العذاب.
وأرشدنا في ضمن هذا العلاج الناجع في كشف العذاب، وإبطال أسبابه، وهو الإيمان.
كما أرشدنا إليه أيضا في قوله تعالى قبل هذا:
{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] أي نجاها من العذاب. وذكر قوم يونس دليلًا على ذلك.
(1) فأمة محمد وأمة يونس عيهما السلام أخر عذاب العاصين منهم إلى يوم القيامة. وفي شأن المسلمين أيضًا يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]. وقد مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبق بيننا بجسده، فلم يبق لنا إلا الاستغفار.
وأرشدنا إليها أيضًا في قوله تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب.
واجب الإفراد والجماعة:
ولا ننهض بهذا العلاج العظيم إلا إذا قمنا متعاونين أفرادًا وجماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه، وبدأ به في نفسه، ثم فيمن يليه ثم فيمن يليه من عشيرته وقومه، ثم جمع أهل ملته.
فمن جعل هذا من همّه، وأعطاه ما قدر عليه من سعيه، كان خليقًا أن يصل إلى غايته أو يقرب منها (1).
صفحة جديدة:
ولنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك، وأخلاقنا من الفساد، وأعمالنا من المخالفات.
ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد ولنشرع في ذلك، غير محتقرين لأنفسنا، ولا قانطين من رحمة ربنا (2). ولا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره، يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله.
دليل بدئنا:
وليكن دليلنا في ذلك وإمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، وسيرة صالح سلفنا. ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق، ويبصرنا في العلم، ويفقهنا في الدين، ويهدينا إلى
(1) قال الشاعر: أحرى بذي الصبر أن يحظى بحاجته
…
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
(2)
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.