الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية ظاهر جلي، لا يحتمل معناه التأويل، ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر والتريث به، وأن الذي كان يخفيه في نفسه، هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه، بأن يهدم تلك العادة المتأصلة في نفوس العرب، وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه، كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة، عند فتح مكة وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم) (1).
ثامنًا [*]: المدارس التي تأثر بها الشيخ في تفسيره:
هذا هو جانب من تفسير الأستاذ الإمام يوضح منهجه، وهو بحق تشع في جنباته الحكمة وغزارة العلم، كما تظهر فيه فطرة المسلم. وإذا كانت النماذج التي أوردتها من تفسيره، لا تظهر تأثره بعوامل خارجية، وإنما تظهر علمه وفهمه وفقهه للدين، فإن هناك جانبًا آخر، يظهر فيه بوضوح تأثر التفسير بمدارس مختلفة، بل ربما قد تبدو متناقضة وأهم هذه المدارس:
1 -
الصوفية وبخاصة الإمام الغزالي رحمه الله.
2 -
السلفية وبخاصة ابن تيمية رحمه الله.
3 -
المعتزلة وأبو مسلم رحمه الله بخاصة.
4 -
الحضارة الأوروبية.
وسنرى لكل واحدة من هذه المدارس، أثرًا غير خاف، وهذه الآثار تتفاوت قوة وضعفًا:
1 - مدرسة التصوف:
إن أهم أثر كان في حياة الشيخ الأولى هو التصوف، فصلته بالشيخ درويش خضر، وما بثه هذا في نفس الشيخ، كان له أطيب النتائج في حياته، كما رأينا من
(1) دروس من القرآن الكريم، ص 151.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: (ثامنا) ليست بالمطبوع
كلام الأستاذ نفسه، وبعد أن اتصل بالأفغاني لم يحاول هذا الأخير أن يقتلع جذور التصوف من قلب الشيخ، لكنه هذبه ونظمه ليكون خالصًا من التشويش والسلبية ولقد مرت حياة الشيخ بمراحل متعددة ذات آثار مختلفة في الفكر والسياسة والاجتماع. ومع هذا كله فلقد بقي للتصوف في نفس الأستاذ جذوره وآثاره. وإن هذه الآثار لتبدو في مظاهر متعددة في التفسير وغير التفسير. ويغلب على الظن أن لحجة الإسلام الغزالي الأثر الكبير في ذلك (1). يذكر العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله، أنه لما جاء مصر والتقى بالأستاذ الإمام حبّب إليه اختصار كتاب (الإحياء) ليستفيد منه الناس، وكان القاسمي سريعًا في تلبية الطلب، وتنفيذ تلك الرغبة. فاختصره في كتاب سمّاه (موعظة المؤمنين). وهذا الطلب من الأستاذ الإمام لم يكن في أول حياته طبعًا. وهذا يدلنا على تأثره بهذا الكتاب من ناحية، واهتمامه بالنواحي الروحية من ناحية. وسنجد في ثنايا التفسير ما يثبت ذلك.
يقول في شرح معنى التوبة عند تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] في سورة البقرة، إنها محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب.
والباعث عليها هو شعور التائب بعظمة من عصاه، وما له من السلطان عليه في الحال، وكون مصيره إليه في المآل، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي، بعد مقارفة الذنب، يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية، ويحدث في روحه انفعالًا مما فعل، وندمًا على صدوره عنه، ويزيد هذا الحال في النفس تذكر الوعيد على ذلك الذنب، وما رتبه الله عليه، من العقوبة في الدنيا والآخرة. هذا أثر التوبة في النفس وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه، وتمحو أثره السيء، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فمن علامة التوبة النصوح: الإتيان بأعمال تشق على النفس، ما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي
(1) يذكر الأستاذ الأكبر (المراغي) رحمه الله، أنه ليلة سفره إلى السودان في سنة 1904 م، وهذا في أواخر حياة الإمام ذهب لزيارته فأوصاه أن يصحب كتاب الإحياء.
يحدثه الذنب وهذه العلامة لا تتخلف عن التوبة، سواء كان الذنب مع الله تعالى، أو مع الناس، ألا ترى أن أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر ذنبًا يباهي به، أن يجيء معرفًا بالذنب، معتذرًا عنه، وهذا ذل يشق على النفس لا محالة) (1).
وهذا الكلام لا يشك قارئه بأنه تسرب للإمام، من أحياء المتصوفين وعلى وجه الخصوص من إحياء أبي حامد.
وعند تفسير الإمام لقصة آدم، يذكر في تفسير الملك والشيطان، أن الأول داعية الخير، والثاني داعية الشر. ويعلق السيد رشيد رضا على هذا التفسير، بأنه موافق لما ذهب إليه الإمام الغزالي، ويأتي بجملة من كلامه مؤيدة لما ذهب إليه. ولا أود هنا أن أناقش المقارنة التي عقدها بين الكلامين، فلذلك موضع آخر إن شاء الله، إلا أن ما أسجله هنا أن الإمام ليس وحده هو الذي تأثر بالغزالي، بل إن السيد رشيد رضا كذلك قد تأثر.
ويقول الأستاذ الإمام عند تفسيره قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] في سورة البقرة يصح أن يكون من قرب الوجود، فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة، فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء إذ منه كل شيءٍ إيجادًا وإمدادًا وإليه المصير) (2).
ويقول السيد رشيد رضا معلقًا على هذا التفسير (وهذا الذي قاله من الحقائق العالية، وعليه السادة الصوفية فقد قال أحد العلماء في قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أي إذا بلغت روحه الحلقوم، إنه القرب بالعلم. وكان أحد كبار الصوفية حاضرًا فقال: لو كان هذا هو المراد لقال تعالى، في تتمة الآية ولكن لا تعلمون، ولكنه لم ينف العلم عنهم وإنما قال:{وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} وليس من شأن العلم أن يبصر، فينبغي هنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات. انتهى بالمعنى وهذا مذكور
(1) تفسير المنار جـ 1 ص 320.
(2)
تفسير المنار جـ 1 ص 168.