الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعض هؤلاء المعترضين، فيجيب عنه مسوغًا، صحة مسلكه وسلامة منهجه، فيقول:(لو ذهب فلاح ومهندس وصبي وحمار، إلى حقل من الحقول، فما دائرة اهتمام كل طرف من هؤلاء؟ أما الحقل فهو فعل الله، تختلف أنظار الناس فيه، وأما مثل الحمار فهم الحفاظ، الذين لا يحفظون من القرآن إلا حروفه (1)، والصبي هم العامة يفرحون لأنغام القرآن، كما يفرح الصبي لمنظر الحقل والفلاح المهتمّ بالأرض، كالعابد يناجي ربه بهذا القرآن، أما المهندس فهو المفسر، يهتم بكل صغيرة وكبيرة، ويحمل سائر الأمة على معرفة العلوم (وسواء أكان هذا المثل الذي ضربه الشيخ
…
مدللًا معللًا، يقيه اعتراضات المعترضين، أم لا، فإنه قد كان ما كان، وجاء تفسير الشيخ على هذا المنوال.
وإذن فالذي يتحتم علينا أن نسير مع الشيخ في تفسيره، لنعرف منهجه ولنطلع على آرائه في بعض الأمور، حتى يتسنى لنا أن نصدر حكمنا بلا شطط، غير باخسين ولا غالين، والله حسبنا ونعم الوكيل.
2 - منهجه في التفسير:
يورد الشيخ مقدمة للسورة التي يريد تفسيرها، وربما يورد ملخصًا لها، ثم يقسم هذه السورة إلى أبواب عامة، ويقسم هذه الأبواب، إلى مقاصد وفصول، حسب ما يتراءى له، وهذه طريقة يتبعها كثير من المفسرين المحدثين، كما رأينا من الأقدمين من سلكلها، في كثير من السور من قبل، إلا أن هذا التقسيم يختلف باختلاف نظر المفسر واجتهاده، مفسِّرنا مثلًا، وهو الذي يهمنا الآن، حينما يتكلم عن سورة البقرة، يقسمها إلى بابين، الأول إلى قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] والثاني إلى آخر السورة، وهو تقسيم من المؤلف إنما نشأ عن فهم حسن جميل، فنحن نرى أن معظم التكاليف من عبادات وأنظمة
(1) ما كنا نرضى من الشيخ مثل هذا المثل.
متعددة، إنما هي في هذا الباب الأخير، وبعد ذلك يقسم الباب إلى عشرة مقاصد:
1 -
مدح القرآن.
2 -
بشارة المؤمنين.
3 -
ذم المنافقين الكاذبين.
4 -
ضرب مثلين لحال الطائفتين المؤمنين والمنافقين.
5 -
نداء عام للناس.
6 -
كيف بدء خلق آدم.
7 -
ذكر بني إسرائيل ونعم الله عليهم وجناياتهم.
8 -
قصة إبراهيم وإسماعيل
…
الخ.
كما يقسم سورة (آل عمران) إلى عشرة أقسام، معنى ألم، معنى الإيمان والتخلية من الرذائل، وكيف يعامل المعاندون والمجادلون، وقصة مريم وزكريا ويحيى وعيسى والحواريين
…
الخ.
وعندما يفسر سورة (النساء) يقسمها إلى تسعة مقاطع -خلق الناس من نفس واحدة، وصلة الأرحام والوصية على اليتامى، وقسّم التركات والمعاملات المالية
…
الخ.
ولئن كان التقسيم سهلًا بالنسبة للسور المدنية، وذلك لما فيها من أحكام متعددة وموضوعات متمايزة، فإنه في السور المكية، ربما يكون شائكًا بعض الشيء، لكن المفسر الفاضل (وقد ألان اللهُ له التفسير، بما منحه من فهم)، نراه يقسم السور المكية كذلك، تقسيمًا لطيفًا دقيقًا، فهذه سورة الإسراء يقسمها قسمين اثنين -الأول إلى قوله تعالى:{وَقَالوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49]، والثاني حتى نهاية السورة، ويعرض في القسم الأول الموضوعات التالية -الإسراء، تاريخ بني إسرائيل ارتقاءً وانحطاطًا، حكم تتبع ذلك وعظات للأمة الإسلامية،
كي لا تذهب دولها كما ذهبت دولة اليهود
…
الخ، والقسم الثاني يشتمل على الموضوعات العملية وهي 25 نوعًا.
إلا أن للشيخ طنطاوي طريقة في تناول الآيات القرآنية، فهو يبدأ بالتفسير اللفظي لكل قسم من الأقسام التي أشرنا إليها، محاولًا أن يأتي بزبدة ما قاله المفسرون، فربما يأتي للآية الواحدة بأكثر من وجه، نلحظ ذلك في كثير من تفسيره ولنأخذ مثلًا هذه الآية من سورة (براءة)، {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [براءة: 122].
انظر كيف يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} ، أي وما استقام لهم أن ينفروا جميعًا، لنحو غزو أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعًا، فإن ذلك يخل بأمر المعاش وبتوزيع الأعمال، كما أوضحناه في قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل مصر أو قرية جماعة قليلة.
{لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ليتكلفوا ويتجشموا مشاق تحصيل الفقه.
{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} أي وليجعلوا غاية سبيلهم ومعظم قصدهم من تحصيل الفقه، أن يرشدوا قومهم (ينذرهم)، لا أنهم يترفعون على الناس ويتبسطون في البلاد.
{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ، إرادة أن يحذروا عما ينذرون، وإنما خص الفقه بالذكر لأنه أهم، وهناك وجه آخر، وهو أن الآية من بقية أحكام الجهاد، وذلك أن هذه الآيات لما فضح المنافقون فيها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السريا، نفر الناس كلهم للغزو، ولم يتخلَّف أحد فنزلت هذه الآية، وهي تقتضي أن ينقسم المسلمون إلى
قسمين .. الخ) (1).
وكذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] يقول فيه (معاد دنيوي وآخروي، أما الدنيوي فإنك ترد إلى مكة إذا اشتقت إليها، لأنها مولدك ومولد آبائك، وأما الأخروي، فإنك ترد إلى المقام المحمود الذي وعدت أنت به).
ثم بعد أن ينتهي من التفسير اللفظي في كثير من الأحيان، يذكر لطائف كما يسميها، وهذا نجده كثيرًا في تفسيره، فمثلًا في سورة (التوبة)، فسر هذه الآيات ابتداءًا من قوله تعالى:{إِلَّا تَنْفِرُوا} [التوبة: 39] إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة: 109] ثم ذكر لطائف، أولاها في قوله تعالى:{إِلَّا تَنْفِرُوا} ، قال:(حكم الله في هذه الآية على الأمم الإسلامية، أن تصبح في عداد الأموات، إذا هي نامت وادعةً ساكنة، ولم تسع سعي الأحياء، وأن تكون في خبر كان، وأن يستبدل بها أممًا أخرى تحل في أماكنها، تهديد شديد ووعيد عظيم، أنزله الله بمن يتركون الجهاد في خفض العيش ودعته). ثم استطرد إلى ذكر أرسطو طاليس، وما بعث به من كتب للإسكندر في هذا الموضوع.
ويقول في اللطيفة الثالثة في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]. (واعلم أن التحقيق في هذا المقام، أن الأمم كلها يجب عليها العمل العام، فأصحاب القوة للدفاع، وأصحاب الصناعات لإحضار العدة، وكل امرئ في الآية مكلف بعمل، لأنه لا دفاع بلا رجال أقوياء، ولا دفاع للأقوياء بلا سلاح، ولا وقوف لهم في وجه العدو إلا بالغذاء واللباس والطرق المنتظمة، ولا طرق ولا غذاء ولا لباس إلا بأعمال هامة، ومدارس منظمة، وحكومة قادرة، وأمة مستيقظة وإرادة تامة). وهذا كلام مَنْ فهم روح القرآن وأدرك مغزاه.
(1) الجواهر جـ 5 ص 171.