الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت النماذج السابقة جعلتنا نقف على أسلوب الرجل وطريقته، فإن من الضروري أن نتعرف إلى آرائه وأفكاره، بصفته من أبرز رجال مدرسة لها أثرها وخطرها في تفسير القرآن الكريم.
بروز خصائص المدرسة العقلية في تفسيره:
لقد عشنا مع المغربي الأديب فلا بد أن نعيش كذلك مع المغربي العالم.
والناظر في تركة الشيخ من تراث قرآني يدرك لأول وهلة أنه كان أكثر تأثرًا بالشيخ محمد عبده، حتى من الشيخ رشيد، وبخاصة في توسيع دائرة العقل، ويتصل هذا التأثر بمدرسة الاعتزال، ومن خلال هذا التفسير سنلمح كذلك عدم عناية الشيخ بالسنّة، وتأويله كثيرًا من الآيات بالتمثيل، لتنسجم مع معطيات العلم الحديث.
أولًا: نزعته العقلية وتأثره بالاعتزال: يقص علينا الشيخ في مقدمته، أن اللجنة التي شكلتها مشيخة الأزهر لدراسة تفسيره قبل أن يطبع، كان من ملاحظاتها أنها وجدت عدة نقاط قررها بما يتفق مع مذهب المعتزلة، وقد اضطر إلى حذفها من تفسيره إلا أن آثار الاعتزال بقيت فيه وقد ظهر بعضها في النماذج السابقة.
أ- فهو عند تفسير قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] يبين مذهب أهل السنّة، ومذهب المعتزلة في رؤية الله، ثم يقول بعد ذلك:(ويا ليت المسلمين أضربوا في صدرهم الأول، عن الاختلاف في أمثال هذه المسألة، مما كان الخلاف فيه لفظيًا أو فلسفيًا، أو لا تكون له نتيجة عملية، أو لا ينقض أصلًا من أصول الدين) وكان الأحرى بالشيخ أن يسير مع أهل السنّة لا على سبيل التعصب، ولكن لأن الآثار ترجح ما ذهبوا إليه، وأن ينحي باللائمة على المعتزلة، لأنهم هم الذين أثاروا مثل هذا الخلاف، ولم يظهر هذا الخلاف في الصدر الأول كما يدّعي.
ب- وإذا كان الشيخ قد تأثر بالمعتزلة بعامة، فإنه كشيخه الإمام تأثر بأبي مسلم
بخاصة، فهو ينقل مستحسنًا كلما سنحت فرصة رأي أبي مسلم. من ذلك مثلًا قوله عند تفسير قول الله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} [الملك: 16] وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن العرب لما كانوا يقرون بوجود الله تعالى، ويزعمون أنه في السماء خوطبوا في الوحي على حسب اعتقادهم، فقيل لهم:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} أي أأمنتم أيها القوم ذاك الإله العظيم الذي تعتقدون أنه موجود في السماء، أن يهلككم! هذا ما قاله أبو مسلم، وهو دقيق جدًّا).
وعند تفسيره لقول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أي يوم هو، أفي الآخرة أو الدنيا؟ يقول:(وذهب أبو مسلم الأصفهاني مذهبًا في تفسير هذه الآيات لا أراه بالبعيد، فقد قال: إن ذلك اليوم في الدنيا، لأن الله تعالى قال: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} ويوم القيامة لا يدعى فيه إلى عبادة) ومع بعد هذا عن المتبادر من الآيات، إلا أن الأستاذ يستحسنه ولا يرى فيه بعدًا ولا به بأسًا.
جـ - ومن هذا القبيل ميله إلى التمثيل في كثير من الآيات، والتمثيل شائع كثيرًا عند المعتزلة. فمثلًا يقول في قوله تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، إن هذا من باب التمثيل).
ويبسط هذا حينما يتحدث عن نعيم الجنة في رسالته (الحجج الظاهرة في ما هي ملذات الآخرة) فهو يذكر أن للناس في نعيم الآخرة ثلاثة مذاهب:
أولًا: مذهب الجمهور ويحملون الآيات على حقيقتها، مستندين إلى قدرة الله والإمكان العقلي.
ثانيًا: مذهب المتصوفة ويفسرونه تفسيرًا روحانيًا.
ثالثًا: مذهب اللغوين الذين يدركون أسرار اللغة ومزاياها.
وأما المذهب الأول فهو مذهب المقلدين الجامدين (هكذا يقول الشيخ وبكل
جرأة! ومن هم هؤلاء المقلدون الجامدون؟ إنهم ليسوا متأخري الفقهاء، ولا صغار العلماء، وإنما هم الجمهور كما قال هو!
…
الجمهور إذن هم المقلدون الجامدون! ، سبحان الله إنه ليس أسهل على رجال هذه المدرسة، من أن يصفوا غيرهم بالجمود والتقليد، ولو كان هؤلاء كبار الأئمة المجتهدين! ! ويخلص الشيخ إلى القول بأن أصحاب المذهب الثالث، هم الذين أصابوا عين الحقيقة، ويستدل لذلك بأمثلة كثيرة منها:(إن التمثيل معروف في لغة العرب، ويستشهد بأقوال من الشعر العربي لا تنهض له دليلًا، ولست بصدد مناقشتها في هذا المجال، فنحن لا ننكر التمثيل والصور المنتزعة من المحسوسات، لكننا لا نرى أن مجال التمثيل ينبغي أن تتسع له دوائر الألفاظ كلها، ولا بأس من أن أنقل بعض عبارات الشيخ (ولا يتوهمن أحد ما قلناه هو بعينه قول المتصوفة السابق، لأن المتصوفة إنما يجعلون مدلولات هذه الألفاظ الدالة على الملذات، أمورًا ذوقية تحسّ بها طائفة خاصة، بينما نحن نقول بأن لتلك الألفاظ مدلولات علوية تلائم الحياة: الحياة الأخروية، لا نستطيع اكتناهها في حياتنا الدنيا، وإنما فعل الشرع ذلك تفاديًا من وضع كلمات جديدة، لهذه المسرات الأخروية، ليست من لغة العرب المخاطبين ولا يفهمونها. والحكمة تقضي أن لا يخاطبهم إلا بما يفهمون، لتنهض الحجة عليهم، وما فعله الشرع من نقل هذه الكلمات من معنى إلى معنى، لم يكن بدعًا من عادة العرب)(1).
ثم يقول: (ومحصل القرآن حمل آيات النعيم، ووصف اللذائذ الأخروية على المعنى الكنائي، والأسلوب التمثيلي -كما وقع في قول الخنساء وأقوال الكثيرين غيرها، من فحول فصحاء العرب وبلغائهم- لا يضر تلك الآيات، ولا يحط من قدر بلاغتها وقيمة إعجازها، بل هو على العكس يزيدها رونقًا وبلاغة وحسنًا، ويرفعها درجات في معارج الإبداع والإعجاز)(2).
(1) على هامش التفسير ص 22 - 23.
(2)
على هامش التفسير ص 27 - 28.
ونتساءل هنا إذا كانت الآخرة وما فيها غيبًا من الغيوب، التي ليس لها طريق إلا خبر المعصوم، وإذا كان لا يعدل عن الحقيقة بغيرها إلا بسبب، فما هو الداعي الذي دعانا إلى حمل هذه الآيات على الكناية والتمثيل؟ يجيب الشيخ عن هذا التساؤل:
أولًا: إن دار الآخرة دار الكمال المطلق، وهي مغايرة بطبيعتها وسننها وجميع نواميسها لدار الدنيا.
ثانيًا: ذكر الوحي مشتهيات ومسرات وأسباب لذة وصنوف نعيم يتنافس بها العرب المخاطبون لذاك العهد، ويعدونها من أكرم الملذات.
ثالثًا: إن الوصائف والمطاعم والمشارب والملابس والأواني، وضروب الزينة، هي مما يزهد فيه كثيرون من أهل الدنيا لا نمثل لك بالأنبياء والصديقين والربانيين، بل ببعض ذوي النفوس الكبيرة والعقول الثاقبة والحكمة الرائعة من أبناء الدنيا) (1).
وما ذكره الشيخ من هذه الأسباب ليس مسوغًا للخروج عن الحقيقة، بل إن كل ما ذكره يمكن أن يناقش ويرد، ويقيني أنه ليس هذا هو السبب الحقيقي، بل إن السبب الحقيقي وراء هذا كله شعور داخلي يطارد كثيرًا من الناس، الذين يظنون أن ما يشيعه خصوم الإسلام من تهم وافتراءات وتقولات، يحتم علينا أن نقف موقفًا دفاعيًا، فنتأول الآيات ونخرجها عن حقيقتها. من أجل ما يقول أولئك، إنه انهزام مع كل أسف، ولعلي لا أتجنى على الحقيقة كما تجنى عليها هؤلاء، وإذا رجعنا إلى بعض عبارات الشيخ ندرك السبب الحقيقي الذي من أجله يعدل عن الحقيقة إلى غيرها، يقول الشيخ:(ولا سيما أن الزنادقة مبغضي الإسلام، قاموا في هذه الأزمنة المتأخرة، فأكثروا من تعيير المسلمين، والقدح فيهم وفي دينهم، وأكبر تكأة يتكئون عليها في ذلك عقيدة (ملذات الجنة) مُذْ يسمعوننا -معشر المسلمين- نأخذ
(1) المرجع نفسه.
بظاهرها الحرفي، ولا يحسن بنا أن نتغافل عما يقوله كتاب أوروبا، وقصصيُّوهم وشعراؤهم فينا، وفي ديننا وتقاليدنا، فقد كان لقولهم تأثير عميق في نفوس أقوامهم وبني جلدتهم، فاقتنعوا فضل اقتناع بأن المسلمين منحطون في دينهم وآدابهم وأخلاقهم) (1).
ولكن لا ندري، ترى، إذا أوّل الشيخ هذه الآيات، أيقتنع هؤلاء المبغضون بهذا التأويل، أم أن هذه الآيات ستبقى في القرآن الذي حفظه الله، وستبقى مثار شبهة عند هؤلاء ابتغاء الفتنة؟ وهل اقتصر أعداء الإسلام في طعنهم وشبهاتهم على نعيم الجنة وحلاوتها فحسب؟ لقد حاولوا النيل من كل جانب من جوانب عظمة الإسلام، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] لقد ألقى هؤلاء شبهات عن الإرث والطلاق والجهاد وتعدد الزوجات، وكلها شبهات باطلة داحضة أفتتأول هذه كلها من أجل أن نأمن شرهم؟ والله يقول وهو يحذرنا منهم {وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
ثانيًا: عدم التثبت في نقل الأحاديث: من أهم الأمور بالنسبة للمسلم بعامة وللعالم بخاصة، التثبت مما ينقل، ولا سيما إذا كان هذا المنقول أحاديث الرسول عليه وآله الصلاة والسلام، إن الواحد من هؤلاء لو نقل له خبر عن شيخه مثلًا، ما كان ليقبله إلا بعد روية وطمأنينة، فما بالهم لا يتثبتون وهم يقولون قال رسول الله! إن إسناد القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون التأكد من هذا الإسناد، من أعظم المآخذ والهفوات التي يلام عليها العالم، فليتق الله أقوام ليس أسهل عليهم من نسبة القول إلى الرسول عليه وآله الصلاة والسلام دون حيطة وتأكد.
والأستاذ المغربي رحمه الله على الرغم من علمه وفضله قد وقع في هذا الخطأ عفا الله عنه، ففي أثناء حديثه عن تفسير آيات نعيم الجنة تفسيرًا لغويًا يعتمد على
(1) على هامش التفسير ص 19 - 20.
أسرار لغة العرب -كما يقول- ويذكر دليلًا على رأيه هذا، قولين ينسبهما إلى الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام:
أما الأول فيقول: إن عمرو بن قميئة قال للنبي إنك تزعم أن عيسى نبي، فكيف تقول (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون؟ ) فيجيبه الرسول ويحك ما أجهلك بلغة قومك إن (ما) لما لا يعقل وإن (من) لمن يعقل.
أما الثاني فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعربوا الكلام كي تعربوا القرآن).
وأقول والألم يحز في نفسي: أما القول الأول فمع أنه باطل من ناحية المعنى والدراية فإنه كذلك مردود من ناحية الرواية، ولهذا قال الحافظ: إنه موضوع وإنه يعجب ممن ينقله (1). وأما الثاني فقد أورده ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء عن أبي جعفر الأنصاري وهو ضعيف معضل (2).
وهكذا نجد بعض العلماء ممن يتصدون لأخطر مهمة، وهي تفسير كتاب الله لا يكلفون أنفسهم التحري في رواية حديث، مع أن ذلك ليس فيه جهد ومشقة، فقد كفانا الأئمة، جزاهم الله خيرًا، مؤونة العناء بما بحثوه ودونوه.
ثالثًا: الشيخ والنظريات العلمية: القرآن كتاب الإنسانية الخالد، جاء يصحح لها معتقداتها وآراءها، ويبين لها طريقة البحث كي لا تضل الطريق، وكتاب هذا شأنه، لا يتصور أبدًا، أن يجاري الناس فيما ألفوه وعرفوه، وإن كان بعيدًا عن الواقع، مجافيًا للحقيقة، ولكن بعض علمائنا سامحهم الله، وعفا عنهم لا يجدون حرجًا من أن يُعلنوا مجاهرين بأن القرآن قرر بعض الأمور، مجاراة لأفهام الناس ومعلوماتهم، بقطع النظر عن حقيقة هذه الأمور في الواقع ونفس الأمر، وما يقررونه مع مجافاته للصواب، فإنما يحمل معه نتائجه الخطيرة في آثارها، والسيئة في عواقبها.
(1) روح المعاني جـ 17 ص 94.
(2)
فيض القدير جـ 1 ص 558.
أ- ومن هذا القبيل، ما يقولونه من أن السماوات السبع إنما هي مدارات الكواكب السيارة، وكان الأقدمون يعرفون منها سبعًا، فقرر القرآن هذا، تبعًا لمعارفهم، قالوا:(ولم تكن قد عرفت كواكب غير هذه السبع، وإنما اكتفى القرآن بذكر السبعة، لأنه لا يريد أن يخبرهم عن أشياء غير معلومة لهم) وهذا قول مردود لأول وهلة، لأن القرآن هو الكتاب الخالد على مدار الأيام، وهو الذي جاء يفتح عيون الناس وعقولهم، ويفتح لهم أبواب الآفاق كلها، ثم ألم يخبر القرآن بأن السماوات والأرض كانتا رتقًا ففتقهما الله؟ أكان هذا يا ترى، مما علمه الناس في ذلك الوقت؟ ألم يقل القرآن:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43] أفكان هذا مما عرفه الناس في ذلك الوقت؟ ! .
وكنا نود من الأديب المفسر الأستاذ المغربي، أن لا يتورط في مثل هذا، ولكنه مع كل أسف أرخى العنان لقلمه ليقرر ما يلي:
(والسماوات السبع هنّ طرائق السيارات ومداراتها، ولا ريب أن هذه المدارات طبقات: طبقة أدنى من طبقة، وفلك فوق فلك، وإنما اقتصر الوحي من ذكر السماوات على سبعة -مع أن العلم أثبت أنها أكثر من ذلك- لأنه تعالى يخاطب القوم وقت البعثة، بما عرفوا من أمر الأفلاك وكواكبها، . وقد أحالهم على النظر والتأمل في تكوينها وأوضاعها، ليتنبهوا إلى كمال إحكامها، وليحدث الخطاب في نفوسهم عبرة، وإذعانًا وفضل تأثر، وليكون ذلك آية لهم على وجود الله وكريم صفاته، وهذا هو جل القصد من ذكر السماوات في القرآن، وليس القصد من ذكرها تقرير حقائق علم الهيئة، وسكوت الوحي من ذكر ما زاد على سبع سماوات لا ينفي وجود الزيادة. والحكمة في هذا السكوت أن المخاطبين في ذلك العهد، ما كانوا مقتدرين على النظر والتفكير في غير السماوات السبع، أو السيارات السبع التي عرفها الأوائل، واشتهر
أمرها عند عامة الناس يومئذ، أما النجوم الثوابت الأخر، فلم يكن يتيسر لهم أو ينتظر منهم، أن يرجعوا البصر فيها ليروا ما فيها من تفاوت أو إحكام، وذلك لبعدها الشاسع عن متناول الحس، وعدم معرفة الأوائل ما عرفه المتأخرون من طبائعها وأحوالها وأما فلكا (أورانس) و (نبتون) فلم يكونا اكتشفا بعد في ذلك العهد، فلو أحال الله البشر في قرآنه على ما لم يمكنهم النظر فيه، والإحاطة علمًا بأمره من النجوم الثوابت، والفَلَكَيْن المذكورين -لكانت إحالته عبثًا، وتكليفه محالًا، وقد أبى الله سبحانه وتعالى لنا ذلك في منزل وحيه، ومحكم شرعه، تفضلًا منه ورحمة) (1).
وفي سورة نوح عليه وعلى نبينا صلاة الله وسلامه، وعند تفسير قول الله تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)} [نوح: 15] يقرر هذا المعنى، ويقول:(إن قوم نوح قد عرفوا هذا، لأنهم كانوا ذوي خبرة في الكواكب). هذا ما يقرره الشيخ عبد القادر رحمه الله، ومن تتبع آي القرآن يجد أن تحديد السماوات بسبع، قد قرر كثيرًا في القرآن بأساليب مختلفة. مثل قوله تعالى:{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، ومثل قوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [الملك: 3]، ومثل قوله:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} [المؤمنون: 86]، وفي كل هذا وضوح دلالة على أن تقرير القرآن، لم يكن القصد منه، مجاراة معارف الناس في ذلك الحين، وإنما هي حقائق قرآنية دونها حقائق العلوم على اختلافها.
ويقيني أن تحديد السماوات بسبع، ليس تحديدًا بشريًا، أي ليس البشر هم الذين وصلوا إليه بمعارفهم كما يقول الأستاذ، وإنما أصل المسألة الوحي الإلهي، وأنا أشك كل الشك في أن قوم نوح استطاعوا أن تصل معارفهم إلى اكتشاف الكواكب السيارة وغيرها، فخبر السماوات إذن وأصلها وعددها، إنما
(1) تفسير جزء تبارك ص 4.
هو من الوحي، وإنما حصل اللبس فيما بعد، حينما عرفت الكواكب السبع فظن أن هذه هي عين تلك، فكان الخطأ في التطبيق والتفسير.
ويحضرني مثال شبيه لهذا وإن كان بعيدًا من حيث الموضوع، يخبرنا رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وبعد أكثر من قرنين اصطلح على سبعة أئمة للقراءات عرفت قراءاتهم بالقراءات السبع، فاشتهر عند العامة وعند كثير من الخاصة حتى من المفسرين، (كالخازن) مثلًا، إن الأحرف السبعة هي القراءات السبع، وهذا خطأ في التطبيق والتفسير، ولكن ليس معنى هذا أنه ليس هناك أحرف سبعة أو قراءات سبع، وهكذا يقال بالنسبة للسماوات السبع والكواكب السبع التي عرفها الأقدمون.
وإذا كان القرآن حصر السماوات بسبع مجاراة لعلوم السابقين ومعارفهم، أفلا يمكن أن يقاس على هذا أمور كثيرة؟ فلو أن مؤرخًا مأفونًا، أو عالمًا معتوهًا، جاء يدعي أنه ليست هناك قرى تعرف بالأيكة أو مدين، أو ليس هناك في التاريخ من يسمى (لُوطا)، أفلا يمكن أن يقال له إذن إن القرآن ذكر هذا، مجاراة لمعارف الناس وتصوراتهم؟ الحق أن فتح هذا الباب على مصراعيه، سيكون سببًا لسهام غدر توجه إلى كبد الحقيقة:(حقيقة هذا الدين) وتقرير القرآن بأن السماوات سبعٌ لفتة علمية رائعة، ينبغي على العلماء أن يحاولوا جادين بحثها، بحثًا علميًّا يكون القرآن فيه هو الأساس.
ب - يقول الشيخ عند تفسير قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] بعد بيانه لرأي الجمهور، ويا ليته اكتفى به: (ولبعضهم في تأويل جعل النجوم رجومًا للشياطين كلام جدير بالقبول وهو: أن الرجوم واحدها الرجم، مصدر رجم، وهو أن يتكلم المرء بالظن والتخمين، ومنه قوله تعالى:{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22] فإن الرجوم هنا يسمى الظنون، أما الشياطين فهم شياطين الإنس، أعني المنجمين الذين اتخذوا من النظر في نجوم السماء، والتكهن عن أمور المستقبل، بما يبدو لهم من طوالعها وقراناتها -صناعة لحمتها
الرجم، وسداها الوهم، فالله تعالى يقول: إنه خلق النجوم فكانت زينة السماء، أما الشياطين من الكهان فقد اتخذوها وسائل للتنجيم وإضلال الناس، فلا بدع إذا أعدت لهم النار يصلون سعيرها) (1) ولسنا مع الشيخ فيما ذهب إليه، لأنه غير جدير بأن يقبل، إذ لا يستقيم مع آيات أخرى، وردت في الموضوع ذاته.
نعم: نحن لا ننفي ما يقوله العلماء، ولكننا لا نخضع له القرآن كذلك، فالقرآن لم يصرح بأن كل ما نراه من الشهب إنما هو من هذا القبيل.
جـ - ويطلعنا الشيخ على ميله، وجريه وراء النظريات، في التوفيق بينها وبين القرآن، فهو يقول عند تفسير قول الة تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)} [المرسلات: 25 - 26]: (وأرى أن اكتشاف ناموس الجاذبية العام، الذي بموجبه تجذب الأرض إليها ما على ظهرها من البشر والدواب وسائر الأشياء، والذي لولاه لطاروا وتبددوا شذر مذر في الفضاء، بسبب حركة الأرض اليومية على نفسها، وحركتها السنوية حول الشمس بسرعة فائقة الحد - هذا الاكتشاف يفسر لنا معنى ما قرره الكتاب الإلهي، من أن الأرض كفات للأحياء منذ يكونون على ظهرها، فإنها تجذبهم إليها، وتضمهم إلى صدرها كما تفعل الأم الحنون، فلا تدعهم يتفلتون وهم بذلك لا يشعرون)(2).
وأما أنا فأرى أن هذا تأويل بعيد، وأنه الآية لا تمت إلى ناموس الجاذبية وقانونها، من قريب أو بعيد، وإنما جاءت الآية، تقرر بعض نعم الله على الإنسان، وليس معنى هذا أنني أنفي ما في الآيات الكونية من إشارات، ولكن لا ينبغي أن نحمل الآيات، فوق عبارتها، كما ذهب إليه الشيخ.
د- ولعل قريبًا من هذا ما قاله في قصة سيدنا يونس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، من أن ما حصل له لا يستغرب، ما دام الإنسان قد سبح في أعماق البحر، وطار في عنان السماء يقول هذا للمنكرين قال (وأما نحن فنؤمن
(1) تفسير جزء تبارك ص 6.
(2)
تفسير جزء تبارك ص 288.
بما جاء بالقرآن ما لم يحله العقل) وأقول: لا داعي لهذا القيد، بل نؤمن بكل ما جاء به القرآن مألوفًا للبشر وغير مألوف.
رابعًا: ذكره بعض نصوص كتب اليهود والنصارى في تفسيره: نلحظ هذا في تفسيره قصة يونس في سورة (ن)، وعند ذكر سيدنا لوط في سورة الحاقة، وعند ذكر سيدنا نوح وخبر الطوفان في سورة نوح، وكان في غنى عن هذا كله، وبخاصة أن تفسيره كتب من أجل الناشئة، وتبنته وزارة المعارف العمومية (1).
خامسًا: عدم تحريه مكية الآية أو مدنيّتها: فمثلًا يذكر عند قول الله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] أن بعض المفسرين قال: (إن هذه الآية نزلت بسبب ما حدث في أحد) ولكن الشيخ لم يرد هذا القول، ولكن رجح غيره عليه لقوله تعالى:{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وكان يكفيه ما يدل عليه سياق السورة وكونها مكية النزول (2).
سادسًا: إشارته لمواطن الهداية: مما يحمد للشيخ في تفسيره، إشارته لمواطن الهداية في القرآن، وتبيينه لسنن الله في الاجتماع البشري، ومحاولة جذبه للمسلمين نحو كتابهم، حتى لا يعذبهم الله بتداعي الأمم عليهم.
وبعد: فهذا علم من أعلام مدرسة الأستاذ الإمام، رأينا فيه نفس الخصائص التي وجدناها في شيخ المدرسة، وربما كان (الأستاذ المغربي) -كما قلت من قبل. وكما ظهر من استعراضنا لتفسيره- أقرب الناس رأيًا إلى الأستاذ الإمام، حتى من الشيخ رشيد في بعض المسائل، ويدلنا على هذا تعمقه في آراء المعتزلة، وبضاعته القليلة في السنة، وقلة تحريه في أسباب النزول، وما سوى ذلك مما أشرت إليه، ومهما يكن من الأمر فإن للشيخ جهدًا، من الحق علينا أن نشكره له، ولقد أحسن، وإن كنا لا نوافق آراءه التي اجتهد فيها في بعض الأحيان، وللمجتهد أجر، هذا إن أخطأ، رحم الله الشيخ وجزاه خيرًا.
(1) ص 62، ص 74، ص 138.
(2)
تفسير جزء تبارك ص 59.