الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا مانع من جواز التأمين الاجتماعي ضد طوارئ العجز والشيخوخة والمرض والبطالة والتقاعد عن العمل الوظيفي، لأن الدولة مطالبة برعاية رعاياها في مثل هذه الأحوال، ولخلوه من الربا، والغرر، والمقامرة.
وقد أجاز مؤتمر علماء المسلمين الثاني في القاهرة عام (1385هـ/1965م)، ومؤتمر علماء المسلمين السابع عام (1392هـ/1972م) كلاً من التأمين الاجتماعي والتأمين التعاوني، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة عام (1398هـ/1978م).
أما
التأمين التجاري أو التأمين ذو القسط الثابت:
فهو غير جائز شرعاً، وهو رأي أكثر فقهاء العصر، وهو ما قرره المؤتمر العالمي الأولي للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة عام (1396هـ/1976م)، وسبب عدم الجواز يكاد ينحصر في أمرين: هما الغرر والربا.
أما الربا: فلا يستطيع أحد إنكاره؛ لأن عوض التأمين ناشئ من مصدر مشبوه قطعاً؛ لأن كل شركات التأمين تستثمر أموالها في الربا، وقد تعطي المستأمن (المؤمَّن له) في التأمين على الحياة جزءاً من الفائدة، والربا حرام قطعاً في الإسلام.
والقائلون بجواز عقد التأمين يرفضون صراحة استثمار شركات التأمين في معاملات ربوية، ولا يقرون للمستأمن أن يقبض شيئاً من الفوائد التي تدفعها شركة التأمين.
والربا واضح بين العاقدين: المؤمِّن والمستأمن، لأنه لا تعادل ولا مساواة بين أقساط التأمين وعوض التأمين، فما تدفعه الشركة قد يكون أقل أو أكثر، أو مساوياً للأقساط، وهذا نادر.
والدفع متأخر في المستقبل. فإن كان التعويض أكثر من الأقساط، كان فيه ربا فضل وربا نسيئة، وإن كان مساوياً ففيه ربا نسيئة، وكلاهما حرام.
فإن قيل: إن التأمين التعاقدي قائم على أساس التعاون لجبر الضرر وترميم الأضرار والمصائب، فلا يكون فيه ربا أو شبهة ربا، أجيب بأن المستأمن يقصد أحياناً المراباة، ويبقى الربا قائماً في عوض التأمين؛ لأنه حصيلة الفوائد والمعاملات الربوية.
أما الغرر: فواضح في التأمين؛ لأنه من عقود الغرر: وهي العقود الاحتمالية المترددة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد ثبت في السنة حديث صحيح، رواه الثقات عن جمع من الصحابة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر» (1). ويقاس على البيع عقود المعاوضات المالية، فيؤثر الغرر فيها، كما يؤثر في عقد البيع.
وعقد التأمين مع الشركات من عقود المعاوضات المالية، لا التبرعات، فيؤثر فيه الغرر، كما يؤثر في سائر عقود المعاوضات المالية، وقد وضعه رجال القانون تحت عنوان (عقود الغرر) لأن التأمين لا يكون إلا من حادث مستقبل غير محقق الوقوع، أو غير معروف وقوعه، فالغرر عنصر لازم لعقد التأمين.
والغرر في التأمين في الواقع كثير، لا يسير، ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين: الخطر، والخطر حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين. والمؤمَّن له لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي، أو يأخذ، فقد يدفع قسطاً واحداً، ويقع الخطر، فيستحق جميع ما التزم به المؤمِّن، وقد يدفع جميع الأقساط، ولا يقع الخطر، فلا يأخذ شيئاً.
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وكذلك حال المؤمِّن، لا يعرف عند العقد مقدار ما يأخذ، أو ما يعطي، وإن كان يستطيع إلى حد كبير معرفة كل ذلك بالنسبة لجميع المؤمن لهم، بالاستعانة بقواعد الإحصاء الدقيق وبحث الأحوال الاجتماعية لشخص المستأمن وظروفه وأوضاعه.
وما قد يقال من اعتماد شركة التأمين على حسابات دقيقة تنتفي معها صفة الاحتمال والغرر والغبن في الظروف العادية، لا يبيح التأمين؛ لأن انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمِّن وحده لا يكفي لانتفاء الغرر عن عقد التأمين، فلا بد من انتفائه بالنسبة للمستأمن أيضاً. والفقه الإسلامي لا ينظر إلى مجموع العقود التي تبرمها شركات التأمين، وإنما ينظر في الحكم على العقد صحة وفساداً إلى كل عقد على حدة.
والقول بأنه لا غرر ولا احتمال بالنسبة للمستأمن؛ لأن محل العقد في التأمين هو الأمان دون توقف على الخطر، وقد حصل عليه عند دفع القسط الأول، هو قول باطل؛ لأن الأمان هو الباعث على عقد التأمين. وليس هو محل العقد، ومحل العقد: هو ما يدفعه كل من العاقدين: المؤمن والمستأمن، أو ما يدفعه أحدهما. ولو قلنا: إن الأمان هو المحل، لكان عقد التأمين باطلاً؛ لأن المحل يلزم أن يكون ممكناً غير مستحيل، والأمان يستحيل الالتزام به.
ومحل عقد المعاوضة، كما تدل الأحاديث الناهية عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وتأمن العاهة، يجب أن يكون موجوداً وقت التعاقد، وأن يكون في حال يمكن معها الانتفاع منه على الوجه المقصود في العقد أو المعتاد، فإن لم يكن كذلك أو كان معدوماً، ولو محتمل الوجود في المستقبل، فلا يجوز شرعاً، ومحل التأمين احتمالي الوجود؛ إذ هو ما يدفعه كلا العاقدين، أو ما يدفعه أحدهما
كالتعويض الذي يدفعه المؤمن (شركات التأمين) حين وقوع الضرر أو الموت بحسب شروط العقد.
والحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر، ولو كان كثيراً:(وهي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لولم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة، ولكنه لايهلك) يشترط فيها أن تكون عامة أو خاصةبفئة معينة، وأن تكون متعينة.
أما الحاجة العامة: فهي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس. وأما الحاجة الخاصة: فهي ما يكون الاحتياج فيها خاصاً بطائفة من الناس كأهل بلد أو حرفة كما تقدم.
ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض، سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر.
ولو سلمنا بوجود الحاجة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إلىه غير متعينة؛ إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس، والذي يسعى إلى الربح، وهو شركة الضمان، فيكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة متعينة في الإسلام، فيمنع.
وإذا سلَّمنا بكون الحاجة متعينة، جاز التأمين بالقدر الذي يزيل الحاجة فقط، عملاً بالقاعدة الشرعية:(الحاجة تقدر بقدرها).
ومما يدل على فساد التأمين: أن الغرر المفسد للعقد يشترط فيه أن يكون المعقود عليه أصالة، وهذا متحقق في عقد التأمين التجاري.
ويفهم من اشتمال التأمين على الغرر اشتماله أيضاً على الجهالة، والجهالة في البدلين بارزة في التأمين، وهي جهالة مقدار ما يدفعه كل من طرفي العقد (المؤمِّن والمستأمن) للآخر، وهو قابل للكثرة والقلة، بل إن ما يدفعه المؤمن بدلاً أو عوضاً عن الضرر أو الهلاك على خطر الوجود، والخطر الذي هو مسوغ العقد قد يقع وقد لا يقع، وكل هذا يجعل الجهالة فاحشة كثيرة تؤدي إلى إبطال العقد.
ويكون عقد التأمين ممنوعاً شرعاً لاشتماله على فاحش الغرر والجهالة. ولايؤبه بالعلم بمبلغ كل قسط عند حلول ميعاده، فهو صحيح أنه مبلغ معلوم، لكن كمية الأقساط هي التي فيها الجهالة، ورضا المؤمن بدفع التعويض عند وفاة المستأمن أو حدوث حادث له، ضمن مدة محددة بالعقد، مهما بلغ عدد الأقساط قلة وكثرة، لا قيمة له؛ لأنه رضا مخالف لقواعد الشرع ونصوصه المانعة من الغرر، كالرضا في القمار أو الزنى لا يحل واحداً منهما.
وكون الجهالة فاحشة فإنها توثر في العقد وتبطله، ولو لم تفض إلى المنازعة، أما الجهالة اليسيرة غير المفضية إلى النزاع فهي المغتفرة. والجهالة في التأمين أفحش مما صوره الفقهاء للجهالة الفاحشة المفضية إلى النزاع وإفساد عقد البيع مثلاً، كبيع الفجل والجزر في الأرض، فهذان موجودان في الأرض، ولكنهما مجهولان على طريق الظهور والعلم، أما في التأمين فبدل الهلاك أو عوض التأمين مرجوح الوجود، قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا احتمال يضعف مشروعية العقد.
لكل ما سبق وغيره من الموانع لا يحل للتاجر وغيره من المستأمنين أخذ بدل الهالك من مال (السوكرة) أو التأمين؛ لأنه مال لا يلزم من التزم به، كما قال ابن عابدين: ولأن اشتراط الضمان على الأمين باطل كما قرر فقهاء الحنفية.