الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما سبق بيانه، وقد أخر إلى هنا، لكثرة ما يتبعه من أمور. فالقبض في الهبة: أن يكون الموهوب مقبوضاً، فلا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض بل لا تتحقق الهبة إلا بالقبض، فبالقبض توجد الهبة، والقبض مولد لآثار الهبة عند الحنفية. وأتكلم هنا في بيان أصل القبض أنه شرط أم لا عند الفقهاء.
ما نوع شرط القبض
؟ اختلف الفقهاء، فقال الحنفية والشافعية (1): القبض شرط للزوم الهبة، حتى إنه لا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض، بدليل ما روت عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جداد عشرين وَسقاً (2) من ماله، فلما حضرته الوفاة، قال: يابنية: إن أحب الناس عندي بعدي لأنت، وإن أعز الناس علي فقراً بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً من مالي، ولو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله، قالت: هذان أخواي، فمن أختاي، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة، فإني أظنها جارية (3).
فهذا نص في اشتراط القبض للزوم الهبة، وإن الهبة تملك بالقبض لقوله:«لو كنت جددتيه وأحرزتيه لكان لك» ، وقال عمر رضي الله عنه: ما بال رجال
(1) الدر المختار ورد المحتار: 533/ 4، 341/ 5، مغني المحتاج: 400/ 2.
(2)
الجد: صرام النخل أي أعطاها ما لا يجد عشرين وسقا، أي يحصل من ثمرته ذلك، والوسق: ستون صاعاً أو حمل بعير، حوالى (130 كغ).
(3)
تتمة الأثر: «فولدت جارية، أخواها عبد الرحمن ومحمد. وبنت خارجة: هي حبيبة بنت خارجة بن زيد، زوجة أبي بكر، كانت ذلك الوقت حاملاً، فولدت أم كلثوم» رواه عن عائشة مالك في الموطأ، ورواه عنه محمد بن الحسن وعبد الرزاق والبيهقي (راجع جامع الأصول: 12 ص/269، تنوير الحوالك شرح الموطأ: 223/ 2، نصب الراية: 122/ 4، التلخيص الحبير: ص260، نيل الأوطار: 5 ص/349).
يَنْحَلون أبناءهم نُحلاً، ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم، قال:«مالي بيدي، لم أعطه أحداً، وإن مات هو قال: هو لابني، قد كنت أعطيته إياه، فمن نحل نحلة فلم يَحُزْها الذي نحلها ـ وأبقاها ـ حتى تكون إن مات لورثته، فهي باطلة» (1).
وهذا هو قول عثمان وعلي أيضاً (2)، وفي الجملة فإن الخلفاء الراشدين وغيرهم اتفقوا على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة محوزة (3).
وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: القبض شرط لصحة الهبة في المكيل أو الموزون، لإجماع الصحابة على ذلك، ويظهر أن المراد بكون القبض شرط صحة أنه شرط لزوم، بدليل قول ابن قدامة: إن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض، وهو قول أكثر الفقهاء.
أما غير المكيل أو الموزون فتلزم الهبة فيه بمجرد العقد، ويثبت الملك في الموهوب قبل قبضه، لما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم تقبض (4).
(1) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، الموضع السابق. والنحلة: العطية من غير عوض، أو الهبة.
(2)
والصدقة على الفقير كالهبة، بجامع التبرع، فلا تصح إلا بالقبض لأنها تبرع كالهبة، لاتجوز في مشاع يحتمل القسمة لأنها كالهبة، لكن إذا تصدق على فقيرين بشيء يحتمل القسمة، جاز، لأن المقصود في الصدقة هو الله تعالى، وهو واحد، والفقير نائب عنه في القبض. ولا يصح الرجوع في الصدقة، ولو على غني استحساناً بعد القبض لأن المقصود هو الثواب وقد حصل.
(3)
هذا أثر عن الصحابة، ورد الزيلعي على من قال: إنه حديث بقوله: غريب، ورواه عبد الرزاق من قول النخعي قال:«لا تجوز الهبة حتى تقبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض» (راجع نصب الراية: 4 ص/121، وراجع المبسوط: 12 ص 57، تكملة فتح القدير: 7ص 113 ومابعدها، البدائع: 6 ص 123، المهذب: 1 ص 447، مغني المحتاج: 2 ص/400).
(4)
المغني: 5 ص 591 ومابعدها.