الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال الشافعية والظاهرية: يصح هذا العقد لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول، ويترك أمر النية لله وحده يعاقب صاحبها عليها.
وقال المالكية والحنابلة: العقد باطل متى قام الدليل على وجود قصد آثم سداً للذريعة. وتطبيقات هذا الخلاف تظهر في زواج المحلل و
بيع العينة
وبيع العنب لعاصر الخمر (1).
وأما أبو حنيفة فيحكم في الظاهر بصحة زواج المحلّل، وبيع العنب لعاصره خمراً، ما لم يصرح في العقد بشرط يخل به، ويجعل بيع العينة فاسداً إن خلا من توسط شخص ثالث.
بيع العينة:
هو بيع يراد منه أن يكون حيلة للقرض بالربا، بأن يبيع رجل شيئاً بثمن نسيئة أو لم يقبض، ثم يشتريه في الحال، وسمي بالعينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عيناً أي نقداً حاضراً، وعكسها مثلها. مثاله: أن يبيعه الرجل سلعة بثمن إلى أجل معلوم، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر، أو نقداً بثمن أقل، وفي نهاية الأجل الذي حدد في العقد الأول يدفع الثمن الأول كله، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب المتاع الذي يبيع بيعاً صورياً، مثل أن يبيع شخص لآخر ثوباً باثنتي عشرة ليرة مؤجلاً دفعها إلى شهر مثلاً، ثم يبيع المشتري هذا الثوب نفسه ـ قبل أو بعد تسلمه ـ إلى بائعه الأول بعشر ليرات تدفع حالاً إلى المشتري، وفي نهاية الأجل المحدد لدفع الثمن في العقد الأول يدفع المشتري كامل الثمن وهو (12) ل. س، فيكون الفرق بين الثمنين فائدة أو ربا لصاحب الثوب
(1) الأموال ونظرية العقد: ص297 ومابعدها، أصول البيوع الممنوعة للشيخ عبد السميع: ص102.
الذي بيع بيعاً صورياً، والعملية كلها للتحايل على الإقراض بالربا عن طريق البيع والشراء.
وقد يوسط المتعاقدان بينهما شخصاً ثالثاً يشتري العين بثمن حال من مريد الاقتراض، بعد أن اشتراها هذا من مالكها المقرض، ثم يبيعها للمالك الأول بالثمن الذي اشترى به، فيكون الفرق رباً له.
اختلف العلماء في الحكم على العقد الثاني، مع أن قصد التعامل بالربا واضح من البائع والمشتري.
قال أبو حنيفة: هو عقد فاسد إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، كما في المثال، إلا أنه يلاحظ أن أبا حنيفة خالف أصله السابق الذكر الذي يقتضي القول بصحة هذا العقد (1) وذلك استحساناً بنص الحديث الذي سيأتي في قصة زيد بن أرقم، ولأن الثمن إذا لم يستوف لم يتم البيع الأول، فيصير البيع الثاني مبنياً عليه، فليس للبائع الأول أن يشتري شيئاً ممن لم يتملكه بعد، فيكون البيع الثاني فاسداً.
وقال أبو يوسف: هذا البيع صحيح بلا كراهة. وقال محمد: إنه صحيح مع الكراهة، حتى إنه قال:«هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا» (2).
(1) وهو أن المعتبر في العقود: هو الألفاظ دون النيات، لأن نية الغرض غير المباح شرعاً مستترة، فيترك أمرها إلى الله وحده يعاقب عليها صاحبها، مادام أثم بنيته، وهذا بخلاف مذهب الإمام أحمد الذي يتشدد بحق في رعاية النية والقصد دون اللفظ (انظر أعلام الموقعين 106/ 1 ومابعدها، ونظرية العقد لأستاذنا الجليل الشيخ محمد أبو زهرة: ص215).
(2)
فتح القدير: 207/ 5 ومابعدها، رد المحتار لابن عابدين: 255/ 4، 291، الأموال ونظرية العقد: ص 301.
وقال الشافعية وداود الظاهري: هذا العقد صحيح مع الكراهة لتوافر ركنه وهو الإيجاب والقبول الصحيحان، ولا عبرة في إبطال العقد بالنية التي لا نعرفها لعدم وجود ما يدل عليها (1)، أي أن القصد الآثم مرجعه إلى الله، والحكم على ظاهر العقد شيء آخر، لذا فإنه يحمل العقد على عدم التهمة.
وقال المالكية والحنابلة: إن هذا العقد يقع باطلاً (2) سداً للذرائع كما سأبين، ولما روي من قصة زيد بن أرقم مع السيدة عائشة رضي الله عنها: وهي أن العالية بنت أيفع قالت: دخلت وأنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة رضي الله عنها، فقالت أم ولد زيد بن أرقم:«إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمان مئة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بست مئة درهم (أي حالّة) فقالت عائشة: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب
(1) الميزان: 70/ 2، إرشاد الفحول للشوكاني: ص 217، القوانين الفقهية: ص 271.
(2)
بداية المجتهد: 140/ 2 وما بعدها، حاشية الدسوقي: 91/ 3، الحطاب: 404/ 4، القوانين الفقهية: ص 258، 271 وما بعدها، الشرح الصغير: 130/ 3. المغني: 175/ 4 ومابعدها، نيل الأوطار: 206/ 5، الموافقات للشاطبي: 361/ 2، الفروق للقرافي: 266/ 3 وما بعدها، أصول الفقه لنا: 895/ 2 ومابعدها. هذا وقد أبطل الحنابلة العقد الأول حيث كان وسيلة للثاني. وقالوا: إن تغيرت صفة الشيء المشترى بما ينقصها أو يزيدها، واشتراها من غير مشتريها أو بمثل الثمن أو بنقد آخر، صح البيع، وكذا لو اشتراها أبوه أوابنه أو غلامه ونحوها ما لم يكن حيلة، فلا يصح (غاية المنتهى: 20/ 2).
(3)
هذا الحديث رواه الدارقطني عن يونس بن إسحاق عن أمه العالية عن أم مُحبة عن عائشة. روي عن الشافعي أنه لا يصح، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، قال في التنقيح: إسناده جيد، وإن كان الشافعي لا يثبت مثله عن عائشة، وكذلك الدارقطني قال في العالية: هي مجهولة لا يحتج بها (انظر جامع الأصول: 478/ 1).
البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم» (1).
واستدلوا من جهة المعقول بالقياس على الذرائع المجمع على منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل منها هي الباعثة على عقدها، لأنه المحصل لها.
والخلاصة: إن جمهور الفقهاء غير الشافعية: قالوا بفساد هذا البيع وعدم صحته؛ لأنه ذريعة إلى الربا، وبه يتوصل إلى إباحة ما نهى الله عنه، فلا يصح.
غير أن الشافعي قال عن الحديث الأول: «لا يثبت، وأيضاً فإن زيداً قد خالفها، وإذا اختلف الصحابة فمذهبنا القياس» .
ويلاحظ أن الشافعية والظاهرية اعتمدوا على ظاهر عقد المتبايعين، فحكموا بصحته عملاً بمقتضى آية:{وأحل الله البيع} [البقرة:275/ 2] وهذا مردود، لأن الظاهر إنما يعمل به إذا لم تقم قرينة تفيد غيره، وههنا قرينة العرف المعهود، وغلبة قصد الناس إلى المحرم، والشيء المتعارف ينزل منزلة الشرط المنصوص، فكان ذلك من أقوى القرائن التي يجب العمل بها؛ لأنها تجعل الظاهر من أمر البائعين هو التذرع إلى المحرم، فإبطال بيعهما هو مقتضى الظاهر (2).
بيع التورّق: هو أن يشتري الشخص السلعة إلى أجل، ثم يبيعها لغير بائعها الأول نقداً في الحال، ويأخذ ثمنها، بقصد الحصول على الدراهم، وهو بيع مكروه عند مالك وعند أحمد في إحدى الروايتين عنه، ولا يكره في رواية أخرى.
(1) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر وأخرجه أيضاً الطبراني وابن القطان وصححه، قال الذهبي: إن هذا الحديث من مناكير عطاء الخراساني (نيل الأوطار: 206/ 5).
(2)
أصول البيوع الممنوعة: ص 105.