الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهناك فروق بين العقدين أوجزها فيما يلي:
أولاً ـ أن المبيع في السلم دين (هو ما يثبت في الذمة) تحتمله الذمة، فهو إما مكيل أو موزون أو مذروع أو عددي متقارب كالجوز والبيض، أما المبيع في الاستصناع فهو عين (أي ما يتعين بالتعيين أو الشيء المعين المشخّص بذاته أو هي المال الحاضر) لا دين، كاستصناع أثاث (مفروشات منزلية) أو حذاء، أو إناء.
ثانياً ـ يشترط في السلم وجود أجل، فهو لا يصح عند الجمهور (غير الشافعية) إلا لأجل كشهر فما فوقه، على عكس الاستصناع في اجتهاد أبي حنيفة رحمه الله، فإن حدد فيه أجل انقلب سلماً، ولا خيار شرط في السلم، وقال الصاحبان: يصح الاستصناع لأجل أو لغير أجل، لأن عرف الناس تحديد الأجل فيه، كما تقدم. وأجاز الشافعية السلم الحال، خلافاً لغيرهم.
ثالثاً ـ عقد السلم لازم لا يجوز فسخه بإرادة أحد العاقدين، وإنما بتراضيهما واتفاقهما معاً على الفسخ، وأما الاستصناع فقد عرفنا أنه عقد غير لازم يجوز لأي طرف من العاقدين فسخه في ظاهر الرواية، ويسقط خيار الصانع إذا أحضره على الصفة المشروطة، وللمستصنع الخيار.
رابعاً ـ يشترط في عقد السلم قبض رأس مال السلم كله في مجلس العقد، ولا يشترط قبضه في الاستصناع، ويكتفي الناس عادة بدفع عربون أو جزء من الثمن كالنصف أو الثلث مثلاً، عملاً بمذهب الحنابلة، ويعد هذا الفرق من الناحية العملية أهم الفروق.
شروط كل من الاستصناع والسلم:
لابد في كل من العقدين من العلم بالثمن جنساً ونوعاً وقدراً وصفة، وإلا
كان العقد فاسداً بسبب الجهالة، وينفرد السلم عند الجمهور باشتراط تعجيل رأس المال (الثمن) وقبضه فعلاً في مجلس العقد قبل افتراق العاقدين أنفسهما، وأجاز الإمام مالك تأخير قبض رأس المال إلى ثلاثة أيام فأقل؛ لأن ذلك التأخير لهذه المدة القريبة في حكم المعجل، لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه. ولا يشترط في عقد الاستصناع تعجيل رأس المال أو الثمن، وإنما يدفع عادة عند التعاقد ولو في غير مجلس العقد جزء من الثمن، ويؤخر الباقي لحين تسليم الشيء المصنوع.
أما المعقود عليه (المبيع المسلم فيه في عقد السلم، والمصنوع في عقد الاستصناع) فلا بد في كلا العقدين من العلم بجنسه ونوعه وقدره وصفته؛ لأن كلاً منهما مبيع، والمبيع يشترط كونه معلوماً غير مجهول.
ولا يجوز اشتمال كلا العقدين على الربا، كأن اتحد الثمن والمبيع في الجنس كبُر ببر، أو شعير بشعير طبيعي أو مصنَّع (مجروش مثلاً) مع التفاضل في ربا الفضل، أو نسيئة مؤجلاً من غير تفاضل مع تأخير التقابض في الأموال الربوية (الأصناف الستة المعروفة في الحديث النبوي وما في معناها)(1).
ولا يثبت خيار الشرط في السلم، وإنما لا بد من أن يكون العقد باتاً لا خيار فيه، أما الاستصناع فهو عقد غير لازم يثبت الخيار فيه قبل العمل أو الصنع، وكذا عند أبي حنيفة ومحمد بعد الفراغ من الصنع، وذهب أبو يوسف إلى لزوم العقد بعد الصنع والرضا به كما تقدم.
أما خيار الرؤية وخيار العيب فيثبت كل منهما في رأس مال السلم إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، وأما في المسلم فيه فلا يثبت خيار الرؤية فيه باتفاق الحنفية حتى
(1) وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح.
لا يعود ديناً كما كان، ويصح ثبوت خيار العيب في المسلم فيه؛ لأنه لا يمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة.
ولا بد في كلا العقدين من بيان مكان الإيفاء إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة في رأي أبي حنيفة، ويتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء في رأي الصاحبين.
ويشترط في عقد السلم عند الحنفية كون جنس المسلم فيه (المبيع) موجوداً في الأسواق بنوعه وصفته من وقت العقد إلى وقت حلول أجل التسليم ولايتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب، ولا يشترط ذلك في عقد الاستصناع. ولم يشترط باقي المذاهب أو الجمهور هذا الشرط في السلم، ويكفي وجود جنس المسلم فيه عند حلول أجل التسليم.
ويشترط الحنفية والشافعية والحنابلة إمكان ضبط المسلم فيه بالصفات بأن يكون من المثليات (المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو العدديات المتقاربة) كالأقمشة والمعادن والرياحين اليابسة والجذوع إذا بيَّن طولاً وعرضاً وغلظاً، ولا يصح السلم فيما لا يمكن ضبطه بالوصف كالدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب، لتفاوت آحادها تفاوتاً فاحشاً في المالية، أما الاستصناع فيصح في الأمرين إذا تعامل الناس به. وصحح المالكية السلم فيما ينضبط ومالا ينضبط بالوصف. وأجاز الحنفية استحساناً السلم في بعض الأشياء غير المثلية أيضاً كالثياب والبسط والحصر ونحوهما كما تقدم.
ولا بأس بالسلم في اللبن والآجر إذا اشترط فيه المشتري (رب السلم) مَلْبناً معلوماً، لأنه إذا سمي المَلْبن، صار التفاوت بين لبن ولبن يسيراً، فيكون ساقط الاعتبار، فيلحق بالعددي المتقارب.
ويصح السلم فيما جرى به التعامل أو لم يجر فيه التعامل، أما الاستصناع فضابطه أنه يصح في كل ما يجري فيه التعامل فقط، ولا يجوز فيما لا تعامل لهم فيه، كما إذا أمر حائكاً أن يحوك له ثوباً بغزل نفسه، ونحو ذلك مما لم تجر عادات الناس بالتعامل فيه؛ لأن جوازه، مع أن القياس يأباه ثبت بتعامل الناس، فيختص بما لهم فيه تعامل، ويبقى الأمر فيما وراء ذلك متروكاً إلى القياس، لكن جرى التعامل في عصرنا باستصناع الثياب، فيكون جائزاً؛ لأن جريان التعامل يختلف باختلاف البلدان والأزمنة.