الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البدلين لم يجز البيع جزافاً لاشتمال العقد على الربا؛ لأن عدم التقدير بالكيل أو بالوزن مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، وذلك بكيل المكيل ووزن الموزون في كلا البدلين.
وهذا يعني أن البيع مجازفة مقيد بغير الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها، فأما الأموال الربوية إذا
بيعت بجنسها فلا يجوز مجازفة لاحتمال الربا وهو مانع من صحة العقد كحقيقة الربا (1).ومن هنا قال الحنفية: الأصل العام في بيع النقود ونحوها جزافاً:
أن
ما يجوز البيع فيه متفاضلاً، يجوز فيه البيع مجازفة، وما لا يجوز فيه البيع متفاضلاً، لا يجوز فيه البيع مجازفة
(2). ويظهر أن هذا الأصل متفق عليه بين المذاهب الأربعة بحسب ما يجوز فيه التفاضل وما لايجوز، على وفق ما هو مقرر من علة معينة للربا في كل مذهب، فلا يجوز مثلاً عند الشافعية بيع الطعام بجنسه أو النقد بجنسه جزافاً تخميناً وإن خرجا سواء؛ للنهي عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر (3).
وعلى هذا:
1ً - إذا بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة مجازفة: لا يجوز البيع، لعدم جواز التفاضل بين هذين المعدنين باعتبارهما من الأموال الربوية، فلا تجوز المجازفة، لاحتمال وجود زيادة في أحد العوضين لا يقابلها مثلها في العوض الآخر، وذلك سواء جهل المتعاقدان أو أحدهما وزن كل عوض منهما، أو عرفا وزن أحدهما دون الآخر.
(1) فتح القدير: 86/ 5.
(2)
تحفة الفقهاء: 39/ 3.
(3)
راجع مغني المحتاج: 25/ 2، المغني: 15/ 4، القوانين الفقهية: ص 246، 257.
فإن وزن العوضان في مجلس العقد، فكانا متساويين في الوزن، جاز البيع استحساناً؛ لأن لمجلس العقد حكم حالة انعقاد العقد، فكان العلم بالتساوي بين البدلين حينئذ كالعلم به عند العقد. أما إذا تفرق العاقدان عن المجلس قبل الوزن، ثم حصل الوزن، فكان العوضان متساويين وزناً، فالبيع فاسد. وقال زفر: البيع صحيح في الحالين إذا كانت هناك مساواة في الوزن؛ لأن المانع من صحة العقد هو احتمال وجود الزيادة، وقد تبين أنه لا زيادة.
2ً - إذا بيع الشيء بغير جنسه كبيع ذهب بفضة مجازفة: صح البيع؛ لأنه جاز التفاضل فيهما، ولكن يجب التقابض في العوضين في مجلس العقد كما يجب حالة اتحاد الجنس.
ويتفرع عن هذه القاعدة في حالتي بيع الشيء بجنسه أو بغير جنسه ما يأتي:
ـ إذا تمت القسمة بين الشريكين فيما يجري فيه الربا: لا تجوز مجازفة في الجنس الواحد، وتجوز في مختلفي الجنس؛ لأن القسمة في معنى البيع أو المبادلة؛ لأن ما يأخذه كل شريك يأخذه عوضاً عما يبقى من حقه في نصيب صاحبه، فكان ذلك مبادلة من وجه، وإفرازاً من وجه.
ـ لو بيع سيف بسيف، أو إناء نحاس بإناء آخر من جنسه مجازفة؛ صح البيع إذا كان ذلك مما يباع عدداً؛ لأن العدّ في العدديات ليس من أوصاف علة الربا (التي هي الكيل أو الوزن) فجاز فيهما التفاضل ولا يتحقق الربا عندئذ.
وإن كان ذلك مما يباع وزناً: فلا يجوز، لأنه بيع مال ربوي بجنسه مجازفة (1).
(1) البدائع: 185/ 5.
ـ إذا بيعت الفضة مغشوشة بمعدن آخر، أو بيع الذهب مغشوشاً، فالعبرة للغالب في الشرع، فغالب الفضة فضة، وغالب الذهب ذهب. فإن بيعت فضة مغشوشة يغلب فيها الفضة، فحكمها حكم الفضة الخالصة: لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء، يداً بيد، أي يصح بيع المغشوشة بما يساويها وزناً من الفضة الخالصة؛ لأن كلاً منهما لا يخلوان عن قليل غش، إذ هما لا يطبعان عادة بدونه، وقد يكون الغش فيهما طبيعياً فيعسر التمييز بين المخلوط والطبيعي، فيلحق القليل من الغش بالرداءة، والجيد والرديء سواء في مبادلة الأموال الربوية، فيعتبر الغش فيهما كأن لم يكن.
فإن كان الغش هو الغالب: فحكمها حكم النحاس الخالص، فلا يباع المغشوش بالنحاس إلا مثلاً بمثل، يداً بيد.
وإن استوت الفضة والغش، أو الذهب والغش: فحكمه حكم ما غلب فيه الفضة أوالذهب في التبايع والاستقراض، فلا يجوز البيع بها ولا إقراضها إلا بالوزن، ولا يجوز بيعها مجازفة وعدداً.
وأما في الصرف فالحكم فيه كغالب الغش أي كحكم فضة غلب عليها الغش، فإن بيعت بفضة خالصة يجزأ المبيع في اعتبارنا وتقديرنا: إن كانت الفضة الخالصة أكثر وزناً من الفضة المغشوشة، جاز البيع، حتى يكون قدر الفضة في كلا العوضين مقابلاً بمثله، وأما الزائد عن ذلك القدر في الفضة الخالصة فهي مقابل الغش كما لو كانت الفضة الخالصة ثمناً لمبيع مشتمل على فضة وقطعة نحاس مثلاً. وإن كانت الفضة الخالصة أقل من الفضة الموجودة في المغشوش أو مثلها، أو جهل الأمر: فلا يجوز البيع لما فيه من الربا في أحد العوضين (1).
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 140/ 4 ومابعدها.
ـ إذا بيع سيف محلىً أي مفضض أو مذهب، والثمن ذهب أو
فضة (1): فإن تماثل جنس الحلية والثمن، وكان مقدار الثمن أكثر من الحلية، جاز البيع، وتكون الحلية مبيعة بمثل وزنها، والزائد من الثمن في مقابل الجفن والحمائل (2) التي تتبع السيف عادة في البيع؛ لأن الأصل المقرر عند الحنفية في تقسيم الثمن على المبيع: أنه إذا كان المبيع أشياء بعضها من جنس الثمن، وبعضها ليس من جنسه، صرف الثمن إلى جنسه بمثل وزنه على وجه يصحح فيه العقد ما أمكن؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة والسداد ما أمكن. وتصحيح العقد هنا يتم بصرف بعض الثمن إلى جنسه بمثل وزنه، والبعض الآخر يصرف إلى الجنس الآخر في اعتبارنا وتقديرنا.
فإن كان الثمن مثل الحلية أو أقل، فلا يجوز البيع، لاشتماله على ربا الفضل، إذ أن الجفن والحمائل تصبح مبيعة بدون عوض عنها وهذا هو معنى الربا.
وإن جهل مقدار الثمن أو اختلف التجار في تقديره: فإن تبين أن الثمن أكثر من الحلية، والحلية أقل وزناً من الثمن في مجلس العقد، يكون البيع جائزاً عند الحنفية. وإن علم ذلك بعد الافتراق عن المجلس: لا يجوز البيع عند جمهور الحنفية. وقال زفر: ينقلب العقد صحيحاً كما في بيع الجزاف، كما مر سابقاً.
وعلى هذا فإن القاعدة: «متى بيع نقد مع غيره كمفضض ومزركش (3) بنقد
(1) انظر البدائع: 217/ 5 ومابعدها، تحفة الفقهاء: 41/ 3 ومابعدها، الدر المختار: 247/ 4 ومابعدها.
(2)
الجفن ـ بفتح الجيم: غمد السيف. والحمائل بفتح الحاء جمع حمالة بكسر الحاء أو محمل بوزن مرجل: وهي علاقة السيف.
(3)
المفضض: ما رصع بفضة أو ألبس فضة، والمزركش هو المطرز بخيوط فضية أو ذهبية.
من جنسه، شرط زيادة الثمن ليكون قدر الحلية من الثمن ثمناً لها والزائد ثمناً للسيف، إذ لو لم تتحقق الزيادة بطل البيع، فلو كان الثمن مثل الحلية أو أقل أو جهل بطل البيع، ولو كان الثمن بغير جنس الحلية، شرط التقابض فقط وجاز التفاضل» كما سيأتي (1).
ومن المعلوم أن صحة البيع فيما إذا كان الثمن أكثر من الحلية تتطلب قبض مايقابل الحلية من الثمن في مجلس العقد، فإن تفرق العاقدان قبل أن يتقابضا، أو يقبض أحدهما حقه دون الآخر، فإنه ينظر:
أـ إن كانت الحلية مما لا يمكن تخليصها عن السيف إلا بإلحاق ضرر به: فسد البيع كله.
ب ـ وإن كانت تتخلص بغير ضرر: جاز البيع في السيف، وفسد في الحلية؛ لأن العقد بقدر الحلية يكون صرفاً، وبالنسبة للسيف يكون بيعاً مطلقاً، والتقابض شرط لصحة الصرف فقط.
فإذا كانت الحلية تتخلص من غير ضرر، فكأنها والسيف شيئان منفصلان، فيجوز العقد في أحدهما دون الآخر.
وإن كانت الحلية لا تتخلص إلا بضرر: فسد العقد كله، أما بالنسبة للحلية فلعدم التقابض، وأما بالنسبة للسيف، فلأنه بيع شيء لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحق البائع، ومثل هذا البيع فاسد كبيع جذع في سقف، فلو فصلت الحلية عن السيف، وسلم إلى المشتري انقلب العقد صحيحاً.
ـ يترتب على الشرطين السابق ذكرهما في عقد الصرف (وهما خلو العقد عن
(1) الدر المختار ورد المحتار: 48/ 4.
خيار الشرط، وعن تأجيل قبض أحد العوضين) أنه لو بيع السيف المحلى بجنس الحلية، أو بخلاف جنسها من الذهب أو الفضة، وكان الثمن أكثر وزناً من الحلية، واشترط أحد العاقدين خيار شرط، أو شرط المشتري تأجيل الثمن في صلب العقد، ثم تفرق المتعاقدان دون أن يتم قبض أحد العوضين: كان العقد فاسداً على التفصيل الآتي (1):
أـ إن كانت الحلية مما لا تتميز عن السيف إلا بضرر: فسد البيع في الحلية بسبب الخيار أو الأجل، وفسد في السيف، لأنه لا يجوز إفراده بالعقد، لما فيه من إلحاق الضرر بالبائع، بتسليمه منفصلاً عن الحلية.
فإن افترق المتعاقدان بعد التقابض، بأن أبطلا الخيار أو أسقطا الأجل، انقلب العقد جائزاً خلافاً لزفر.
ب ـ وإن كانت الحلية تتميز عن السيف من غير ضرر: فسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، والفساد في نفس المعقود عليه، وفي مثل هذا يشيع الفساد في كل المبيع.
وقال محمد: يجوز البيع في السيف، ويبطل في الحلية؛ لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، وللفاسد تأثيره، فيصح العقد في الجزء الصحيح، ويفسد في الفاسد.
جـ ـ إذا اشترى رجل من صائغ سواراً من فضة بدراهم فضية، وتماثلا في الوزن، وتقابضا وافترقا، أو تصارف رجلان ذهباً بذهب، أو فضة بفضة مثلاً بمثل، وتم التقابض بينهما، وافترقا، ثم زاد أحدهما صاحبه شيئاً وقبل الآخر: فسد البيع عند أبي حنيفة.
(1) راجع البدائع: 217/ 5 وما بعدها.
وقال أبو يوسف: الحط والزيادة باطلان لاغيان، والعقد الأول صحيح.
وقال محمد: الحط جائز بمنزلة الهبة المستقبلة، والزيادة باطلة.
ومنشأ هذا الخلاف هو اختلافهم في تأثير الشرط الفاسد على العقد إذا تأخر ذكره عن العقد (1):
فعند أبي حنيفة: يلتحق هذا الشرط بالعقد ويفسد العقد، فإذا وجدت الزيادة أو الحط بعد انعقاد العقد، التحقا بأصل العقد، فكأن العقد وجد منذ إنشائه على هذا النحو مشتملاً على الزيادة في أحد العوضين، فيفسد العقد بسبب التفاضل في مال ربوي؛ لأن العوضين من جنس واحد، فيتحقق الربا.
وإنما شرط القبول في الحط عند أبي حنيفة، لأنه يترتب عليه فسخ العقد، ولا يحق لأحد المتعاقدين إجراء الفسخ إلا برضا الآخر.
وعند أبي يوسف ومحمد: إن الشرط الفاسد لا يلتحق بالعقد إلا أن أبا يوسف التزم هذا الأصل، فأسقط اعتبار الزيادة والحط جميعاً فبقي البيع الأول صحيحاً.
وأما محمد فإنه فرق بين الزيادة والحط، فقال: الزيادة باطلة والحط جائز؛ لأن الزيادة لو صحت لالتحقت بأصل العقد، فأفسدته، فبطلت الزيادة.
وأما الحط: فلا يشترط لصحته أن يلتحق بالعقد بدليل أن البائع لو حط جميع الثمن صح، ولا يلتحق بأصل العقد، إذ لو التحق لكان البيع واقعاً بلا ثمن، فيجعل حطاً للحال بمنزلة هبة مستأنفة أو مبتدأة بقطع النظر عن البيع الأول.
(1) راجع البدائع: 216/ 5، الدر المختار: 246/ 4.