الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويلاحظ أن خيار الرؤية وخيار العيب في رأس المال (الثمن) إذا كان عيناً قيمية أو مثلية، لايفسد عقد السلم؛ لأن الخيارين المذكورين لايمنعان ثبوت الملك في البدل.
وأما بالنسبة للمسلم فيه (المبيع) فلا يثبت خيار الرؤية فيه بالاتفاق؛ لأن هذا الخيار لايجري فيما يملكه الإنسان ديناً في الذمة، إذ لافائدة في الخيار حينئذ؛ لأن ثمرته في الأصل رد المبيع الغائب عند رؤيته إذا لم يعجب المشتري، والمبيع المسلم فيه ليس عيناً معينة، بل دين في الذمة يقضى بأمثاله، فعند رؤيته إذا ساغ رده بخيار الرؤية يعود ديناً كما كان، ويجب أداء مثل آخر، فيمكن رده أيضاً بالخيار، وهكذا فيتسلسل، فلذا يكتفى بوصف المبيع لصحة السلم، فيقوم بيان الوصف مقام المعاينة.
وأما خيار العيب في المسلم فيه: فإنه يصح ثبوته؛ لأنه لايمنع تمام القبض الذي تتم به الصفقة (1).
العاشر: بيان مكان الإيفاء
إذا كان للمبيع كلفة ومؤونة، كالحنطة والشعير، وهذا الشرط في جواز السلم عند أبي حنيفة، وأما عند الصاحبين، فلا يشترط ذلك.
ومنشأ الخلاف هو: هل يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء فيما يحتاج لحمل ومؤونة؟ مع اتفاقهم على أن مكان الإيفاء إذا كان مجهولاً لايجوز السلم؛ لأنها جهالة مفضية إلى المنازعة (2).
(1) فتح القدير: 5 ص 343، عقد البيع للأستاذ الزرقاء: ص 119.
(2)
البدائع: 5 ص 213، المبسوط: 12 ص 128، فتح القدير: 5 ص 341، رد المحتار: 4ص 216.
قال أبو حنيفة: لايتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء؛ لأن العقد إذا وجد مطلقاً عن تعيين مكان، فلايتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، بقي مكان الإيفاء مجهولاً جهالة مفضية إلى المنازعة بسبب الخلاف على نفقات النقل.
وقال الصاحبان: يتعين مكان العقد مكاناً للإيفاء، فلا يكون هناك جهالة فيصح السلم؛ لأن سبب وجوب الإيفاء هو العقد، والعقد وجد في هذا المكان، فيتعين مكان العقد لوجوب الإيفاء فيه كما في بيع العين.
ويرد عليهما: بأن العقد قائم بالعاقدين، لا بالمكان، وهذا مكان المتعاقدين وليس مكاناً للعقد، فلم يوجد العقد في هذا المكان.
ويجري هذا الخلاف في بيان مكان أداء الأجرة في عقد الإجارة إذا احتاج الأمر إلى نفقة نقل، فعند أبي حنيفة: لايصح العقد إذا لم يعين مكان أداء الأجرة. وعند الصاحبين: تصح الإجارة، ويتعين مكان إيفاء الأجرة بتعيين مكان إيفاء المعقود عليه. فإن كان المأجور داراً أو أرضاً، فتسلم الأجرة عند الدار والأرض، وإن كان المأجور دابة فعند بدء انطلاق السير. وإن كان ثوباً دفع إلى مصبغة مثلاً، ففي الموضع الذي يسلم فيه الثوب. ويلاحظ أن مكان العقد يتعين مكاناً للتسليم عند الصاحبين إذا أمكن التسليم في مكان العقد. فإذا لم يمكن: بأن كان في البحر أو على رأس الجبل، فإنه لايتعين مكان العقد للتسليم، ولكن يسلم في أقرب الأماكن الذي يمكن التسليم فيه من مكان العقد.
وأما إذا لم يكن لتسليم المسلم فيه كلفة ومؤونة كالجواهر واللآلئ ونحوها من المنقولات الخفيفة الحمل، فهناك روايتان عن الحنفية:
في رواية: يتعين مكان العقد، وهذا قول الصاحبين.
وفي رواية، وهي الأصح عندهم: يسلم الشيء حيثما لقي أحد العاقدين صاحبه، ولايتعين مكان العقد؛ لأن الأماكن كلها سواء، إذ المالية لاتختلف باختلاف الأماكن فيما لاحمل له ولا مؤونة (1). ولو عينا مكاناً آخر للإيفاء سوى مكان العقد: فإن كان فيما له حمل ومؤونة يتعين، وإن كان فيما ليس له حمل ومؤونة ففيه روايتان:
في رواية: لايتعين، وله أن يوفيه في أي مكان شاء.
وفي رواية: يتعين وهو الأصح، لأنه يفيد رب السلم بعدم تحمل خطر الطريق (2).
وقال المالكية: الأحسن اشتراط مكان الدفع (3).
وقال الشافعية: المذهب أن المسلم فيه إذا سلم بموضع لايصلح للتسليم، أو يصلح ولحمله مؤونة، اشترط بيان محل تسليم المسلم فيه، لتفاوتت الأغراض فيما يراد من الأمكنة في ذلك. فإن صلح المكان للتسليم ولم يكن لحمله مؤنة، فلا يشترط ذكر مكان التسليم، ويتعين مكان العقد للتسليم للعرف (4).
وقال الحنابلة: لايشترط ذكر مكان الوفاء إن لم يعقد بنحو برية وسفينة. ويتعين مكان العقد للتسليم عند الاختلاف (5).
الحادي عشر: أن يكون المسلم فيه مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن
(1) فتح القدير: 5 ص 342، البدائع: 5 ص 213.
(2)
فتح القدير مع العناية: 5 ص 342، رد المحتار: 4 ص 216 ومابعدها.
(3)
القوانين الفقهية: ص 270.
(4)
مغني المحتاج: 2 ص 104.
(5)
غاية المنتهى: 2 ص 80.
باختلافها ظاهرا ً، أي أن يكون المبيع من الأموال التي تقبل الثبوت في الذمة: وهي المثليات، بأن يكون من المكيلات أو الموزونات أو الذرعيات أو الأعداد المتقاربة، مثل الحبوب والثمار والدقيق والثياب، والقطن والكتان والحديد والرصاص والأدوية، والجوز والبيض؛ لأن المكيلات والموزونات ممكنة الضبط قدراً وصفة على وجه لايبقى فيها إلا تفاوت يسير، لأنها من ذوات الأمثال. وأما المتقارب من الذرعيات والعدديات، فلأن الجهالة فيها يسيرة لاتفضي إلى المنازعة.
فإن كان مما لايضبط بالوصف، كالعدديات المتفاوتة، والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقارات والجواهر واللآلئ والجلود والخشب والرؤوس والأكارع والرمان والسفرجل والبطاطيخ ونحوها: لايجوز السلم فيها، لأنه لايمكن ضبطها بالوصف، إذ يبقى بعد بيان جنسها ونوعها وصفتها وقدرها جهالة فاحشة مفضية إلى المنازعة بسبب التفاوت في المالية بين آحاد هذه الأشياء، فهناك تفاوت فاحش بين جوهر وجوهر، ولؤلؤ ولؤلؤ، وحيوان وحيوان، وجلد وجلد، وهكذا لأن أثمانها تختلف اختلافاً متبايناً بالصغر والكبر وحسن التدوير وزيادة الضوء والصفاء، فيقع البيع فيها على مجهول، وبيع المجهول لايجوز.
هذا هو مذهب الحنفية. ويلاحظ أنهم أجازوا السلم في العدديات المتقاربة مطلقاً كيلاً، ووزناً وعددا ً. أما العدديات المتفاوتة: فلم يجيزوا السلم فيها لا وزناً ولا عدداً (1).
وقال المالكية: يصح السلم فيما ينضبط، وفيما لاينضبط بالوصف، إذا اشترط رب السلم منها شيئاً معلوماً جنسه وصفته ومقداره إما بالوزن فيما يوزن
(1) المبسوط: 12 ص131، 136، البدائع: 5ص208 ومابعدها، فتح القدير: 5ص324 ومابعدها، 354، رد المحتار: 4ص213، الفرائد البهية في القواعد الفقهية للشيخ محمود حمزة: ص39.
وإما بالكيل فيما يكال أو بالذرع فيما يذرع، أو بالعدد فيما يعد أو بالوصف فيما لايوزن ولايكال ولايعد؛ لأن شرط صحة السلم: أن يضبط المسلم فيه، وأن يكون ضبطه بما جرت العادة بضبطه به بالوزن أو الكيل أو العدد أو الذرع.
أما بالنسبة للعدديات المتقاربة، فيجوز السلم فيها عدداً، لأنها لاتتباين كثيراً (1).
وقال الشافعية: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف دون مالا ينضبط، أما بالنسبة للعدديات المتقاربة كالجوز واللوز فيصح السلم كيلاً أو وزناً، أو ذرعاً ولايجوز عدداً؛ لأن ذلك يتباين ويختلف، فلم يجز عدداً كالبطيخ. وأما العدديات المتفاوتة، فيصح السلم فيها وزناً في البطيخ والباذنجان والقثاء والسفرجل والرمان، وما أشبه ذلك مما لايضبطه الكيل لتفاوت وحداته وتنافرها في المكيال، ولايكفي فيها العدّ لكثرة التفاوت فيها، فلم يمكن تقديرها بغير الوزن (2).
وقال الحنابلة: يصح السلم فيما ينضبط بالوصف كمكيل وموزون دون مالا ينضبط. أما العدديات المتفاوتة ففيها وجهان: وجه يصح السلم فيها عدداً وتضبط وحداتها بالصغر والكبر. ووجه: لايصح السلم فيها إلا وزناً، كما قال الشافعية (3).
وهكذا يكون مذهب الشافعية والحنابلة قريباً من مذهب الحنفية، والخلاف بينهم محصور في السلم في العدديات المتقاربة عدداً، وفي العدديات المتفاوتة. وأجاز المالكية السلم فيما لاينضبط بالوصف.
(1) بداية المجتهد: 2ص200، حاشية الدسوقي: 3ص207، 215، المنتقى على الموطأ: 4ص292، 294، 296.
(2)
المهذب: 1ص297، 299، مغني المحتاج: 2ص107.
(3)
المغني: 4ص276، 288 ومابعدها.