الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعير سَلَّطه على قبضِ ماله، والاحترازُ منه ممكنٌ بان لا يَدفعَ إليه المال؛ فبطل ما ذكرتم من الفرق.
قيل: لَعَمْرُ اللَّه لقد صح الحديث بان امرأةً كانت تستعيرُ المتاع وتجْحده فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقُطِعت يدها (1)، فاختلف الفقهاء في سبب القطع: هل كان سرقتها وعرّفها الراوي بصفتها لأن (2) المذكورَ سببُ القطع كما يقوله الشافعي ومالك وأبو حنيفة (3)، أو كان السببُ المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد (4) ومن وافقه؟ ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين ألبتة، فإن كان الصحيح قولَ الجمهور اندفع السؤال، وإن كان الصحيح [هو قول](5) الآخر فموافقتُه للقياسِ والحكمةِ والمصلحةِ ظاهرٌ جدًا؛ فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بدَّ لهم منها، ولا غنى لهم عنها، وهي واجبةٌ عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأُجرة أو مجانًا، ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعًا وعادةً وعرفًا، ولا فرق في المعنى بين مَنْ توصَّل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها، وهذا بخلاف جاحد الوديعة؛ فإن صاحب المتاع فرّط حيث ائْتمنهُ.
فصل [الفرق بين اليد في الدية وفي السرقة]
وأما قَطعُ اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمس مئة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة؛ فإنه احتياطٌ (6) في الموضعين للأموال والأطراف، فقَطَعها في ربع دينار حفظًا للأموال، وجعل ديتها خمس مئة دينار حفظًا لها وصيانة، وقد
(1) رواه مسلم (1688)(10) في (الحدود): باب قطع السارق الشريف، من حديث عائشة.
(2)
في (ق): "لا أن".
(3)
انظر: "المدونة الكبرى"(4/ 417)، و"شرح معاني الآثار"(2/ 98)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 502)، و"بداية المجتهد"(2/ 244)، و"معالم السنن"(3/ 306)، و"شرح المنهاج"(4/ 194)، و"المحلى"(11/ 362)، و"أحكام السرقة في الشريعة الإِسلامية"(ص 78 - 83).
(4)
انظر: "المغني"(9/ 80، 94)، و"طرح التثريب"(8/ 29)، و"نيل الأوطار"(7/ 307)، و"سبل السلام"(4/ 65).
(5)
بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "هو القول"، وفي (ك):"قول".
(6)
في المطبوع: "احتاط".
أورد بعض الزنادقة (1) هذا لسؤال وضمّنه بيتين، فقال:
يدٌ بخمسِ مئين من عسْجدٍ وُدِيت (2)
…
ما بالها قُطعت في رُبع دينار
تناقضٌ مالنا إلا السكوت له
…
ونسْتجير بمولانا من العارِ (3)
فأجابه بعض الفقهاء (4) بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم قوله (5):
يَدٌ بخمس مئين من عسجد (6) وُدِيت
…
لكنها قطعت في ربع دينار
حماية الدم أغلاها، وأرْخَصها
…
صيانة (7) المال، فانظر (8) حكمة الباري
[وروي أن الشافعي (9) رحمه الله أجاب بقوله:
(1)"ينسبان إلى أبي العلاء المعري، وحفظي: "يد بخمس مئين مسجد""(د)، وبنحوه في (ط). وانظر ما سيأتي.
قلت: قال الذهبي في "الميزان"(1/ 112) في ترجمة (أحمد بن عبد اللَّه بن سليمان أبو العلاء المعري): "له شعر يدل على الزندقة"! وانظر -لزامًا- في تحقيق ذلك: "إعلام النبلاء"(4/ 154 وما بعده) للطباخ، وانظر كتابي:"الإشارات"(رقم 125).
(2)
"كنت أسمعها: "يد بخمس مئين مسجد وديت"، وكذلك في الجواب الآتي عنها"(و).
(3)
في (ك): "النار".
(4)
هو ابن الجوزي، كما في "حاشية البيجوري على شرح ابن القاسم"(2/ 246).
(5)
هو القاضي عبد الوهاب المالكي، ويقال: إن هذا الجواب للشريف الرَّضي، أفاده المَقْبَليّ في "العلم الشامخ"(97 - 98)، ونسبه الصاوي في "حاشيته"(1/ 89، 283) للقاضي عبد الوهاب، وذكر الصفدي في "الغيث المسجم"(1/ 82) البيتين المنسوبين لأبي العلاء، وذكر نظمًا لعلم الدين السخاوي في الرد عليه.
ونسبها لأبي العلاء جمع أيضًا، منهم: ابن حجر في "الفتح"(12/ 98)، وأورد رد القاضي عبد الوهاب، وفسره بقوله:"وشرح ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنابات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمس مئة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين" وانظر: "المعلم"(2/ 254 - 255)، "حاشية البيجوري"(2/ 246)، "اللسان"(1/ 205 - 206)، كتابنا "شعر يخالف الشرع"(الباب الخامس) منه.
(6)
في (ك): "بخمس مئين عسجد"، وفي (ق):"بخمس مئة عسجد".
(7)
تحرفت في المطبوع إلى: "خيانة"!.
(8)
في (ن): "فافهم".
(9)
"لا يتفق ذلك مع أن قائل البيتين هو المعري"(د)، ونحوه في (ط).
قلت: لأن المعري توفي (449 هـ) بعد الشافعي بمدة، ولذا لا تصح النسبة للشافعي، ولعل القائل فقيه شافعي من عصر أبي العلاء، أو القاضي عبد الوهاب (ت 433 هـ) أو =
هناك مظلومةٌ غالت بقيمتها
…
وههُنا ظَلَمت هانَت على الباري
وأجاب شمس الدين الكردي بقوله:
قل للمصرِّيِّ (1) عارٌ أيما عار
…
جهْلُ الفتى وهو عن ثوب التُّقى عارِ
لا تقدحن زناد الشِّعر عن حِكم
…
شعائر الشَّرع لم تُقْدح بأشعارِ
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب
…
فإن تعدّت فلا تسوى بدينارِ] (2)
فصل (3)[حكمة جعل نصاب السرقة ربع دينار]
وأما تخصيصُ القطع بهذا القدر فلأنه لا بد من مقدار يُجعل ضابطًا لوجوب القطع؛ إذ لا يمكن أن يقال: يُقْطع بسرقة فلْس أو حبَّة حنطةٍ أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا، وتُنزَّه حكمة اللَّه وإحسانه ورحمته عن ذلك، فلا بد من ضابط، وكانت [الثلاثة دراهم](4) أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار، وقال إبراهيم النخعي وغيره (5) من التابعين:"كانوا لا يقطعون في الشيء التافه"(6)؛ فإن
= الشريف الرضي (ت 436 هـ) كما قدمناه. ونسب للشافعي في "زهر الربيع"(1/ 348) و"ديوان الشافعي"(281 - جمع مجاهد بهجت)!!.
(1)
يعني أبا العلاء المعري، فهو الذي ينسب إليه البيتان المذكوران". (و).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "ثلاثة دراهم".
(5)
في (ق): "أو غيره".
(6)
أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"(6/ 466 - ط دار الفكر) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1509) من طريق عبد اللَّه بن قبيصة كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لم يكن يقطع على عهد النبي في الشيء التافه. وإسناده صحيح، وعبد اللَّه بن قبيصة في بعض حديثه نكرة، كما قال ابن عدي، ولم ينفرد به، فقد توبع عليه، خلافًا لما قال ابن عدي.
وروي مرسلًا، فأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 466)، وعبد الرزاق (10/ 235 رقم 18959) في "مصنفيهما"، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 255) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه؛ قال:"كان السارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ثمن المجنّ، وكان المجنّ يومئذ له ثمن، ولم يكن يقطع في الشيء التافه"، لفظ ابن أبي شيبة.
ولفظ عبد الرزاق: "إن سارقًا لم يقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من مجن، جحفة أو ترس. . . " بنحوه.
قال البيهقي: "والذي عندي أن القدر الذي رواه من وصله من قول عائشة، وكل من =
عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ (1) لا يلحقهم ضرر بفقده، وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة؛ فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبًا، وقوت اليوم للرجل وأهله له خطرٌ عند غالب الناس؛ وفي الأثر المعروف:"من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها"(2).
= رواه موصولًا حفاظ أثبات، وهذا الكلام الأخير (أي: وإن يد السارق لم تقطع في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه، وهو لفظ البيهقي) من قول عروة، فقد رواه عبدة بن سليمان، وميّز كلام عروة من كلام عائشة رضي الله عنها". وانظر:"نصب الراية"(3/ 360).
وانظر في ترجيح اشتراط النصاب والرد على شبه المخالفين: "المبسوط"(9/ 36)، "الرسالة" للشافعي (ص 224)، "معالم السنن"(3/ 304)، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 607)، "الإشراف"(4/ 452 بتحقيقي)، "طرح التثريب"(8/ 25 - 27)، "فتح الباري"(12/ 106 - 107)، "إحكام الأحكام"(4/ 127)، "زاد المعاد"(5/ 49)، "نيل الأوطار"(7/ 300)، "السرقة" للشهاوي (ص 34 - 36)، "أحكام السرقة"(151 - 157) للكبيسي، "النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود"(1/ 50)، "الحدود والتعزيرات"(369 وما بعدها).
(1)
في المطبوع: "إذا"!
(2)
رواه ابن حبان (671)، وفي "روضة العقلاء"(ص 277 - 278)، والطبراني في "مسند الشاميين"(22)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(539)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 249) من طريق عبد اللَّه بن هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عبلة عن أبيه عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء.
وهذا إسناد ضعيف جدًا عبد اللَّه بن هانئ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(5/ 194) فقال: روى عنه محمَّد بن عبد اللَّه بن محمَّد بن مخلد عن أبيه عن إبراهيم بن أبي عبلة أحاديث بواطيل. سمعت أبي يقول: قدمت الرحلة فذكر لي أن في بعض القرى هذا الشيخ وسألت عنه فقيل: هو شيخ يكذب، فلم أخرج إليه ولم أسمع منه.
وقال الذهبي في "الميزان": متهم بالكذب. أما ابن حبان فذكره في "الثقات"(8/ 357)!! وأبوه هانئ ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب. وأما الهيثمي فقال في "مجمع الزوائد"(10/ 289): ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم.
وله شاهد من حديث عبيد اللَّه بن محصن. رواه البخاري في "الأدب المفرد"(رقم 301 و 303)، و"التاريح الكبير"(5/ 372)، والترمذي (2346) في "الزهد"، والحميدي (439)، والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 146)، والقضاعي (540)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(4/ 146 رقم 2126، 2127)، وابن قانع في "معجم الصحابة"(10/ 3597 رقم 1158)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(4/ 1874 رقم 4716)، والبيهقي في "الشعب"(7/ 294، 295 رقم 10362، 10363، 10364)، والخطيب في "تاريخ =