الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [الحكمة في التفريق بين بعض مقادير الزكاة]
وأما قوله: "أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر، وفي الزروع والثمار نصف العشر أو العشر، وفي المعدن الخُمس" فهذا أيضًا من كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح (1)؛ فإن الشارع أوجب الزكاة مواساةً للفقراء، وطُهرةً للمال، وعبوديةً للرب، وتقربًا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته، ثم فرضها على أكمل الوجوه، وأنفعها للمساكين، وأرفقَها بأرباب الأموال؛ ولم يفرضها في كل مال، بل فَرضَها في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الربح والدَّرُّ والنسل، ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه، بل فرضها في أربعة أجناس من المال: المواشي، والزروع والثمار، والذهب والفضة، وعروض التجارة؛ فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وعامة تصرفهم فيها، وهي التي تحتمل المواساة، دون ما أَسقَطَ الزكاة فيه، ثم قسم كل جنس من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة وإلى ما لا زكاة فيه، فقسم المواشي إلى قسمين: سائمة؛ ترعى بغير كلفة ولا مشقة ولا خسارة، فالنعمة فيها كاملةٌ والمنَّةُ فيها وافرةٌ والكلفة فيها يسيرة والنَّماء فيها كثير؛ فخص هذا النوع بالزكاة، وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في زكاة دواليبِهم وحروثِهم (2) وحملِ أمتعتهم؛ فلم يجعل في ذلك زكاة، لكلفة العلوفة (3) وحاجة المالكين إلى العوامل فهي كثيابهم وإمائهم وعبيدهم وأمتعتهم.
ثم قسّم الزروع والثمار إلى قسمين: قسمٌ يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من [ماء](4) السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر، وقسم يُسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبة السائمة والمعلوفة، فلم يوجب فيه زكاة ما شَرِب بنفسه، ولم يسقط زكاته جملة [واحدة](4)، فأوجب فيه نصف العشر.
(1) انظر: حكمة التشريع في الزكاة للمصنف -رحمة اللَّه عليه- في "زاد المعاد"(1/ 147 - 148)، و"مفتاح دار السعادة"(ص 329)، و"الوابل الصيب"(ص 49 - 60).
(2)
في (ك) و (ق): "وحراثهم".
(3)
في المطبوع: "المعلوفة" ولعل الصواب ما أثبتناه.
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين: أحدهما ما هو معدٌّ لتنميته (1) والتجارة به والتكسب ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها، وإلى ما هو معد للانتفاع دون الربح والتجارة كحلي (2) المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها فلا زكاة فيه (3).
ثم قسم العروض إلى قسمين: قسم أعد للتجارة ففيه الزكاة، وقسم أعد للقِنْية والاستعمال فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه.
ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملًا خفَّفها بأن جعل فيها ربع العشر، ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تُسقى بالكلفة (4) أقل كلفة والعمل أيسر ولا يكون في كل السنة جعله ضعفه وهو نصف العشر، ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل والمؤنة أيسر جعله ضعف ذلك وهو العشر، واكتفى فيه بزكاة عامة خاصة؛ فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم تكن فيه زكاة لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته، بخلاف الماشية، وبخلاف [ما لو أعِدَّ للتجارة](5)؛ فإنه عُرْضة للنماء، ثم لما كان الرِّكازُ مالًا، مجموعًا محصلًا وكلفَة تحصيله أقل من غيره، ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس.
فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر (6) العقولَ حسنُها وكمالها، وشهدت الفِطر بحكمتها، وأنه لم يطرق العالم شريعة أكمل منها (7). ولو اجتمعت عقول العقلاء وفِطر الألِبَّاء واقترحت شيئًا يكون أحسنُ مُقترحًا (8) لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به.
ولما لم يكن كل مال يحتمل المواساة قدَّر الشارع لما يحتمل المواساة نُصُبًا مقدرة لا تجب الزكاة في أقل منها، ثم لما كانت تلك النصب تنقسم إلى مالا يجحف المواساة ببعضه أوجب الزكاة منها، وإلى ما يجحف المواساة ببعضه
(1) في المطبوع: "للثمنية".
(2)
في المطبوع: "كحلية".
(3)
انظر: "الطرق الحكمية"(ص 301)، و"بدائع الفوائد"(3/ 143)، وما قدمناه.
(4)
في (ق) و (ك): "بكلفة".
(5)
بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "مال التجارة".
(6)
في (ق) و (ك): "يبهى".
(7)
في المطبوع: "أفضل منها".
(8)
في المطبوع و (ن) و (ك): "مقترح".