الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[جَوَّز الشرع بيع المعدوم في بعض المواضع]
الوجه الثاني: أن نقول: بل الشرع صحَّح بيع المعدوم في بعض المواضع؛ فإنه أجاز بيع الثمر بعد بُدُوِّ صلاحه والحبِّ بعد اشتداده (1)، ومعلومٌ أن العقدَ إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يُخلق (2) بعد، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل بدوّ صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح، ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصَّلاح بشرط القَطْع كالحصرم جاز، فإنما نُهي عن بيعه إذا كان قصدهُ التَّبْقِية إلى الصلاح (3)، ومن جوّز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقًا وجعل موجب العقد القطع، وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقًا؛ لم يكن عنده (4) لظهور الصلاح فائدة، ولم يكن فرق بين ما نُهي عنه من ذلك وما أُذن فيه؛ فإنه يقول: موجب العقد التسليم في الحال، فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحُه أو لم يُبد.
[الصواب في المسألة]
والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والقياسُ الصحيح.
(1) رواه أحمد (3/ 221، 250)، وابن أبي شيبة (7/ 116)، وأبو داود (3371) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، والترمذي (1228) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وابن ماجه (2217) في (التجارات): باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وأبو يعلى (3744)، وابن حبان (4993)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 24)، والدارقطني (3/ 47 - 48)، والحاكم (2/ 19)، والبيهقي (5/ 301) من طرق عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسوَدَّ، وعن بيع الحب حتى يشتدَّ.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وفي النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها دون قوله والحب حتى يشتد أحاديث في "الصحيحين" منها: حديث ابن عمر، رواه البخاري (1486 و 2194)، ومسلم (1534)، وحديث أنس رواه البخاري (1488 و 2189 و 2196 و 2381)، ومسلم (1555).
وعن جابر رواه البخاري (1487، 2189، 2196، 2381)، ومسلم (1536).
(2)
في (ك) و (ق): "يوجد".
(3)
انظر: "تهذيب سنن أبي داود"(5/ 154 - 155)، و"زاد المعاد"(4/ 262) كلاهما لابن القيم رحمه الله.
(4)
في (ن): "عقده".
وقوله: "إن موجب العقد التسليم في الحال" جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يَسوغُ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتفٍ في هذه الدعوى؛ فلا الشارعُ أوجبَ أن يكونَ كلُّ مبيعٍ مستحق التسليم (1) عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المُثمَنِ، وقد يكون للبائع غرضٌ صحيح [ومصلحة](2) في تأخير التسليم [للمبيع، كما كان](2) لجابر [رضي الله عنه غرض صحيح](2) في [تأخير تسليم](2) بعيره إلى المدينة، فكيف يمنعه الشارعُ ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخر فيها؟ إذ قد رضي بها كما رضي النبي صلى الله عليه وسلم[على جابر](3) بتأخير تسليمِ البعير (4)، ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه، ويجوزُ لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيعِ ما له فيه غرضٌ صحيحٌ (5)، كما إذا باع عقارًا واستثثى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها، ولا يختص ذلك بالبيع، بل لو وهبه [شيئًا](6) واستثنى نفْعَه مدة، أو أعتق عبدَه واستثنى خدمته مدة، أو وقف عينًا واستثنى غَلّتها لنفسه مدة حياته، أو كاتبَ أمَةً واستثنى وَطْئها مدة الكتابة، ونحوه، وهذا كله منصوص أحمد، وبعضُ أصحابه يقول: إذا استثنى منفعةَ المبيع فلا بد أن يُسلِّمَ العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناءً على هذا الأصل الذي قد تبين فساده، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد، وعن هذا الأصل قالوا:(7) لا تصح الإجارة إلا على مدة تَلِي العقد، وعلى هذا بَنَوْا ما إذا باع العين المؤجرة؛ فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل على (8) البيع فلا يحصل التسليم، ومنهم من قال: هذا مستثنى بالشرع، بخلاف المُستثنى بالشرط وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة بل
(1) في (ق) و (ك): "كل بيع يستحق به التسليم".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر كلامًا قويًا لابن القيم حول الاستثناء في البيع في "بدائع الفوائد"(4/ 4).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(7)
زاد هنا في (ك) و (ق): "إنه".
(8)
في (ق): "في".