الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المضاربة، فقالوا: المضاربة المال فيها من واحد والعمل من آخر، فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البَذْر فيها من مالك الأرض، وهذا القياس -مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة- فهو من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه، ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البَذْر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأجل (1) الباقي؛ فالعامل إذا أخرج البَذْرَ ذهب عمله وبذره، ورب الأرض يذهبُ نفعُ أرضه، وبدن هذا (2) كأرض هذا؛ فمن جعل البَذْرَ كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه، كما قال مثل ذلك في المضاربة، كيف ولو اشترط رب البذر عَوْد نظيره لم يجوّزوا ذلك؟
فصل [الحوالة موافقة للقياس]
وأما الحوالة فالذين قالوا: "إنها على خلاف القياس"(3) قالوا: هي بيع دين بدين، والقياس يأباه، وهذا غلطٌ من وجهين (4):
أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ (5)، والكالئ: هو المؤخَرُ الذي لم يُقْبَضْ (6)، كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة، وكلاهما مُؤخَّر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ (7)، وأما بيع الدَّيْن بالدَّيْن فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا،
= باب المزارعة مع اليهود ونحوه، ومسلم (1551) (كتاب المساقاة): باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، عن ابن عمر.
(1)
في المطبوع و (ق) و (ك): "بالأصل".
(2)
في (ق) و (ك): "وبذر هذا".
(3)
هذا قول كثير من المالكية والشافعية انظر: "المهذب"(1/ 344)، "فتح العزيز"(10/ 338)، "شرح منح الجليل"(6/ 187).
(4)
انظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 364)، "مجموع فتاوى ابن تيمية"(20/ 513) وذهب معظم فقهاء الحنفية والحنابلة إلى أنه موافق للقياس، انظر:"البناية"(6/ 808)، "إحكام الأحكام"(3/ 198 - 199) لابن دقيق العيد، "فتح الباري"(4/ 465 - 466)، "شرح النووي على صحح مسلم"(10/ 228)، "المغني"(4/ 576)، "حاشية الروض المربع"(2/ 191).
(5)
سيأتي تخريجه.
(6)
زاد هنا في (ك): "بالمؤخر الثاني".
(7)
"وصورته: أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل، لم يجد ما يقضي به، =
وهو الممتنع (1)، وينقسم إلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط، وهذا فيه نزاع.
قلت (2): الساقطُ بالساقط في سورة المقاصَّة، والساقطُ بالواجبِ كما لو باعه دينًا له في ذمته بدَيْن آخر من غير جنسه، فسقط الدينُ المبيعُ ووجب عِوَضه، وهو (3) بيع الدين ممن هو في ذمته، وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كُر (4) حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دَيْن وسقط له عنه دين غيره، وقد حُكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه (5)، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس (6) بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهيَّ عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدُهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غَرضٌ صحيح ومنفعة مطلوبة، وذلك ظاهر في مسألة التقاص، فإن ذمتهما تبرأ من أسرِها، وبراءةُ الذمة مطلوبٌ (7) لهما وللشارع، فأما في الصورتين الأخرتين (8) فأحدهما يُعجِّل براءة ذمته والآخر ينتفع (9) بما يربحه، وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح -وذلك في بيع العين بالدين- جاز أن يفرغَهَا من دَيْنٍ ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها به ابتداء (10) إما بقرض أو (11) بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دَيْن بدين فلم ينهَ الشَّرعُ (12) عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه؛ فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمةِ المُحيل إلى ذمة المُحال عليه، فقد عاوض
= فيقول بِعْنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض، يقال: كلأ الدين كلوءًا فهو كاليء إذا تأخر" (و). قلت: ولنزيه حماد دراسة مفردة مطبوعة في هذه المسألة.
(1)
في المطبوع: "هو ممتنع".
(2)
القائل هو الإمام ابن القيم رحمه الله.
(3)
في المطبوع: "وهي".
(4)
"الكر: مكيال للعراق"(ط).
(5)
له في "تفسير آيات أشكلت"(2/ 635 وما بعد) مبحث مطول جدًا، تتطابق عباراته مع "الإعلام" أحيانًا، انظره فإنه مفيد، وقارن بـ"مجموع الفتاوى"(29/ 511 - 512).
(6)
في (ق) و (ك): "ولا هو".
(7)
في (ق): "مطلوبة".
(8)
في المطبوع: "الأخيرتين".
(9)
في (ق): "انتفع".
(10)
في (ق): "أبدأ".
(11)
في (ق): "وإما".
(12)
في (ك) و (ق): "الشارع".
المُحيلُ المحتالَ بدينه بدين آخر (1) في ذمة ثالث (2)، فإذا عاوضَهُ من دَيْنه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وباللَّه التوفيق.
رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام، قال (3): الوجه الثاني -يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس- أنَّ الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المَدينِ (4) مالَه كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدَّيْن عن الدين الذي في ذمةِ المُحيل؛ ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح:"مَطْلُ الغني ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدكم على مليء فَلْيَتَّبع"(5) فأمر المَدِينَ بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء، وهذا كقوله [تعالى] (6):{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أمر المستحق أن يطالب بالمعروف، وأمر المؤدي (7) أنْ يؤدّي بإحسان، ووفاءُ الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شَوْب (8) المعاوضة، وقد ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاءِ المَدين بسبب [أن](9) الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله (10)، ثم إنه يقاصُّ ما عليه بماله، وهذا تكلُّفٌ أنكره جمهور الفقهاء، وقالوا: بل نفس المال الذي قَبضهُ يحصلُ به الوفاء، ولا حاجَة أن يُقدِّر في ذمة المستوفي دَيْنًا، وأولئك قَصَدُوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق، وهذا لا حاجة إليه، فإن الدَّينَ من جنس المطلق الكلي والمعيَّن من جنس المعين، فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة، وأي مُعين
(1) في المطبوع: "من دينه بدين آخر".
(2)
في (ق) و (ك): "في ذمته ثابت".
(3)
من هنا يستأنف ابن القيم كلام شيخه -رحمهما اللَّه تعالى- فتابِعْه في "مجموع الفتاوى"(20/ 512 - فما بعدها)، وللشيخ صالح السلطان بحث مطبوع في (بيع الدين)(مهم).
(4)
في (ق): "الدين".
(5)
أخرجه البخاري (2287)(كتاب الحوالات): باب في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة، و (2288) باب إذا أحال على مليء فليس له رد، ومسلم (1564) (كتاب المساقاة): باب تحريم مطل الغني، من حديث أبي هريرة.
"أي إذا أحيل على قادر، فليحتل، قال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه: أتبع -بتشديد التاء- وصوابه بسكون التاء بوزن أكرم"(و).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(7)
في المطبوع: "المدين".
(8)
في (ك): "ثبوت".
(9)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(10)
في (ق): "في ذمته للمدين مثله".