الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [من حكمة اللَّه اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة]
وكان من تمام حكمته ورحمته أن لم يأخذ الجُناة بغير حُجَّة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغُ وأصدقُ من إقرار اللسان، فإن من قامت عليه شواهدُ الحال بالجناية كرائحةِ الخمر وقيْئها وحَبَل مَنْ لا زوجَ لها ولا سيّد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممَّن قامت عليه شهادةُ إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة (1) وإن نازع فيه بعض الفقهاء، وإما أن تكون الحجة مِنْ خارج عنهم وهي البيِّنةُ، واشتُرط فيها العدالة وعدم التهمة؛ فلا أحسن في العقول والفطر في ذلك، ولو طُلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة (2).
[السر في أن العقوبات لم يطرد جعلها من جنس الذنوب]
فإن قيل: كيف تدَّعون أن هذه العقوبات لاصقةٌ بالعقول وموافقة للمصالح، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر باللَّه أفظع، ولا أقبح من سفْك الدماء، فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه؟ وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة؟ ثم لو كان ذلك مستحسنًا لكان أولى أن يُحرَّق ثوب من حَرَق (3) ثوب غيره، وأن يُذبح حيوان من ذبح حيوان غيره، وأن يُخرَّب دار من خرب دار غيره، وأن يجوز لمن شَتمَ أن يشتم شاتمه، وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه؟ وإذا كان إراقة الدم الأقل (4) مفسدة وقطع الطرف كذلك، فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقَطْع الطرف الثاني؟ وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها؟ ولو كانت المفسدةُ الأولى تزولُ بهذه المفسدة
(1) مضى تخريج ذلك.
(2)
انظر: "الطرق الحكمية"(ص 16 - 21)، و"عدة الصابرين"(ص 229 - 230)، و"بدائع الفوائد"(3/ 117 - 119، 152 - 156، 174 - 175)، و"زاد المعاد"(2/ 78، 79، 143) للمؤلف رحمه الله.
(3)
في (ق): "أن يخرق ثوب من خرق".
(4)
في المطبوع: "الدم الأول".
[الثانية] لكان فيه ما فيه؛ إذ كيف تزال (1) مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه؟ فكيف والأولى لا سبيل إلى إزالتها؟ وتقرير (2) ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها، ثم كيف حَسُن أن يُعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة، ولم يحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا، ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به (3) القذف، ولا المزوِّر على الإمام والمسلمين بقطع أنامله التي اكتسب (4) بها التزوير، ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب (5) بها الحرام؟ فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسًا وقدرًا وسببًا ليس بقياس، وإنما هو محض المشيئة، وللَّه التصرف في خلقه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
فالجواب -وباللَّه التوفيق والتأييد- من طريقين: مُجْمَلٍ، ومفصل: أما المُجمل فهو أَنَّ مَنْ شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومن أحاط بكل شيء علمًا، وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف [كان](6) يكون، وأحاط علمُه بوجوه المصالحِ دقيقِها وجليلِها وخفيِّها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعًا عن كمال عِلْمه وحكمته ووضعه كلَّ شيء في مَوْضِعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إيَّاه، كما وَضعَ قوةَ البصر والنور للباصر في العين، وقوة السمع في الأذن، وقوة الشم في الأنف، وقوة النطق في اللسان والشفتين، وقوة البطش في اليد، وقوة المشي في الرجل، وخص كُلَّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يُعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره، فشَملَ إتقانُه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن
(1) في (ق) و (ك): "إذ تزول"، وما بين المعقوفتين سقط منهما.
(2)
في (ق): "وتعريف"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة:"وتفريق" وهي (ك).
(3)
في (ن): "نطق به"، وفي (ق) و (ك):"ولا القاذف بقطع لسان".
(4)
في (ق): "كتب".
(5)
في (ن): "التبس"، وفي (ق):"التمس".
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).