الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للعذر فهي أولى بالسقوط (1)، ومن قواعد الشرع الكلية أنه "لا واجبَ مع عجزٍ، ولا حرامَ مع ضرورة"(2).
فصل [الرهن مركوب ومحلوب وعلى من يركب ويحلب النفقة]
ومن ذلك قول بعضهم: إن الحديث الصحيح -وهو قوله: "الرَّهنُ مركوبٌ ومحلوب، وعلى الذي يركبُ ويحلبُ النفقة"(3) - على خلاف القياس، فإنه جوَّز لغير المالك أن يركب الدابة و [أن](4) يحلبها، وضمَّنه (5) ذلك بالنفقة لا بالقيمة، فهو مخالف للقياس من وجهين (6).
والصواب ما دل عليه الحديث، وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه؛ فإن الرهن إذا كان حيوانًا فهو محترمٌ في نفسه لحقِّ اللَّه سبحانه، وللمالكِ فيه حَقُّ الملك، وللمرتهن حق الوثيقة، وقد شرع اللَّه سبحانه الرَّهنَ مقبوضًا بيد المرتهن، فإذا كان بيده فلم يَرْكبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلًا (7)، وإن مَكَّن صاحبه من ركوبه خرج عن (8) يده وتوثيقه، وإن كَلَّف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ (9) لبنه
(1) انظر: "بدائع الفوائد"(3/ 86 - 87) للمؤلف رحمه الله.
(2)
انظر كلام ابن القيم على هذه القاعدة في "تهذيب السنن"(1/ 47 - 48).
(3)
اللفظ الوارد في الصحيح هو "الرهن يركب بنفقته ولبن الدر يُشرب إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقته"، رواه البخاري (2511 و 2512) في (الرهن): باب الرهن مركوب ومحلوب، من حديث أبي هريرة.
ولفظ الرهن مركوب ومحلوب: رواه الدارقطني (3/ 34)، وابن عدي (1/ 272)، والبيهقي (6/ 38)، والخطيب (6/ 184)، والحاكم (2/ 58) من طرق عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقال الحاكم:"إسناده صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لإجماع الثوري وشعبة على توقيفه عن الأعمش، وأنا على أصلي الذي أصلته في قبول الزيادة من الثقة".
ورواه موقوفًا البيهقي (6/ 38)، ورجح الدارقطني في "العلل"(10/ 112 رقم 1903)، والخطيب الوقف، وكما ذكر الحافظ في "الفتح" (5/ 142) و"التلخيص الحبير" (3/ 36): وانظر: تعليقي على "الإشراف"(3/ 23).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
في (ق): "وضمن".
(6)
انظر تفصيل ذلك في: "البناية"(9/ 645) للعيني، و"سبل السلام"(3/ 769) للصنعاني.
(7)
في (ن): "ذهبت نفقته باطلًا".
(8)
في (ن): "من".
(9)
في (ق) و (ك): "أن يأخذ".
شق عليه غاية المشقّة، ولا سيما مع بعد المسافة، وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه؛ فكان مُقتضى العَدْل والقياس ومصلحة الراهن والمُرْتَهِن والحيوان أن يستوفيَ المُرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة (1)، ففي هذا جمع بين المصلحتين، وتوفير الحقَّين (2)، فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه، والمرتهن إذا أنفق عليه أدّى عنه واجبًا، وله فيه حق، فله أن يرجعَ ببدَلِه، ومنفعةُ الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلًا، فأخْذُها خيرٌ من أن تُهدَر (3) على صاحبها باطلًا ويُلزم بعوض ما أنفق المُرتهن، وإن قيل للمُرتهن؛ "لا رجوع لك" كان في ذلك إضرارٌ (4) به، ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان، فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يُختار.
فإن قيل: ففي هذا أن منْ أدّى عن غيره واجبًا فإنه يرجع ببدله، وهذا خلاف القياس؛ فإنه إلزام له بما لم يلتزمه، ومعاوضة لم يرض بها.
وقيل (5): وهذا أيضًا محض القياس (6) والعدل والمصلحة، وموجب الكتاب، ومذهبُ أهلِ المدينة وفقهاءِ الحديث، أهلِ بلدته وأهلِ سنته، فلو أَدَّى عنه دينَه (7) أو أنفق على مَنْ تلزمه نفقته أو افْتَداه من الأسر ولم ينو التبرُّع فله الرجوع، وبعض أصحاب أحمد فرَّقَ بين قضاء الدين ونفقة القريب؛ فجوَّز الرجوع في الدين دون نفقة القريب، قال: لأنها لا تصير دينًا (8)؟
قال شيخنا (9): والصواب التسوية بين الجميع، والمحققون من أصحابه ساووا بينهما (10)، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبتُه بالفِداء، وليس ذلك دَيْنًا عليه، والقرآن يدل على هذا القول، فإن اللَّه تعالى قالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
(1) في (ن): "ويعوض ثمنها".
(2)
في (ق): "للحقين".
(3)
في (ق): "تذهب".
(4)
في (ق): "كان فيه إضرار".
(5)
في (ق): "قيل".
(6)
في (ن): "محض الكتاب".
(7)
في (ق) و (ك): "دينًا".
(8)
انظر المسألة بتفصيلها في "القواعد" لابن رجب (1/ 523 - بتحقيقي).
(9)
"هو شيخ الإسلام ابن تيمية"(و).
قلت: الكلام بطوله مع تصرف يسير جدًا في "مجموع الفتاوى"(20/ 560 - 561)، وانظر:"المعدول به عن القياس"(ص 132 - 134).
(10)
انظر مبحث: "من أدى عن غيره واجبًا" لابن القيم في "الطرق الحكيمة"(ص 20).