الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضًا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر، وهو أن التَّيمم جُعل في العُضوين المغسولين، وسَقطَ عن العضوين الممسوحين، فإن الرِّجْليْنِ تُمسحان (1) في الخف، والرأس في العمامة، فلما خَفَّف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مُسِحَا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقالٌ من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدلُ الأمور وأكملها، وهو الميزان الصحيح.
وأما كونُ تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سَقطَ مسحُ الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى، إذ في ذلك من المشقة والحرج والعُسر ما يُناقض رخصة التيمم، ويَدْخُل أكرمُ المخلوقات على اللَّه في شبه البهائم إذا تمرَّغ في التراب، فالذي جاءت به الشريعة لا مَزِيدَ في الحسن والحكمة والعدل عليه، وللَّه الحمد.
فصل [السلم جار على وفق القياس]
وأما السَّلَم فمن ظَنَّ أنه على خلاف القياس تَوَهَّم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك"(2) فإنه بيعُ معدومٍ، والقياسُ يمنعُ
= 382): أبواب الصلاة: باب ما جاء في كراهية النفخ في الصلاة، والطبراني (23 رقم 742، 743، 744، 745)، وابن حبان (5/ 1913)، وأبو يعلى (12/ 6954)، والحاكم (1/ 271)، والبيهقي (2/ 252)، عن أم سلمة قالت: رأى النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا لنا، يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ، فقال:"يا أفلح! تَرِّب وجهك" لفظ الترمذي. وإسناده ضعيف، فيه أبو صالح مولى آل طلحة بن عبيد اللَّه، لم يوثقه غير ابن حبان، وأومأ ابن حجر في "الفتح"(3/ 85) إلى ضعفه.
وفي جميع الأصول: "كما قال بعض"!! والقائل في المصادر هو الرسول صلى الله عليه وسلم!!
(1)
في (ق): "يمسحان".
(2)
أخرجه أحمد (3/ 204، 403، و 434)، وعبد الرزاق (14214)، وابن أبي شيبة (6/ 129) والشافعي (2/ 143)، والطيالسي (1318)، وأبو داود (3503) (كتاب الإجارة): باب الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي (1232) (كتاب البيوع): باب كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (4613) (كتاب البيوع): باب ما ليس عند البائع، وابن ماجه (2187) (كتاب التجارات): باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، وابن الجارود (602)، والطبراني في "الكبير"(3097 - 3105)، و"الأوسط"(5139) و"الصغير"(770)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(4/ 41)، وابن حبان (4983)، =
منه (1)، والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مَضْمونٍ في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنها (2) على وفق القياس، وقياسُ السَّلَم على بيع العَيْن المعدومة التي لا يدري أيَقْدِرُ على تحصيلها أم لا، والبائع والمشتري منها على غرَر، من أفسد القياسَ صورةً ومعنى، وقد فطر اللَّه سبحانه العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له (3)، وبين السلم إليه في مُغَلٍّ مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكَّى (4) والربا والبيع.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تَبعْ ما ليس عندك"(5) فيحمل على معنيين (6):
أحدهما: أن يبيعَ عينًا معيَّنة وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلِها وتسليمِها إلى المشتري.
والثاني: أن يريد بيعٍ ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمَّة، [وهذا أشبه، فليس](7) عنده حسًا ولا معنى، فيكون قد باعه شيئًا لا يدري هل يحصل [له](8) أم لا، وهذا يتناول أمورًا:
أحدها: بيعُ عينٍ معيَّنة ليست عنده.
الثاني: السَّلَم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه.
الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته [عادة](8) فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دَيْن من الديون، وهو كالابتياع بثمنٍ مؤجلٍ، فأيُّ فرقٍ بين كون أحد العوضين مؤجَّلًا في الذمة وبين الآخر؟ فهذا محضُ القياس
= والدارقطني (2/ 8 - 9)، والبيهقي (5/ 267، 313)، كلهم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا به. قال الترمذي:"حديث حسن".
والحديث صحيح، له شاهد من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، خرجته في تعليقي على "الموافقات"(1/ 469) وللَّه الحمد.
(1)
انظر حول هذا: "البناية"(6/ 623)، "المنتقى" للباجي (4/ 297)، "إحكام الأحكام"(3/ 156).
(2)
في المطبوع: "أنه".
(3)
في (ن): "ولا يقدر عليه".
(4)
في (ق): "والذكي".
(5)
مضى تخريجه في الصفحة السابقة.
(6)
في (ك) و (ق): "فيحتمل معنيين".
(7)
بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وليس".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
والمصلحة، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وهذا يعمَّ الثَّمنَ والمُثمَن، وهذا هو الذي فهمه تُرجمانُ القرآن [من القرآن] (1) عبد اللَّه بن عبَّاس فقال: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلالٌ في كتابِ اللَّه، وقرأ هذه الآية (2).
فثبت أن إباحة السلَم على وفق القياس والمصلحة، وشُرع على أكمل الوجوه وأعدلها، فشَرطَ فيه قبضَ الثمن في الحال، إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين (3) بغير فائدة، ولهذا سُمِّي سلمًا لتسليم الثمن، فإذا أخَّر (4) الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه، وكثرت المُخاطرة، ودخلت المعاملة في حد الغرر، ولذلك منع الشارع أن يُشترطَ فيه كونه من حائط معين؛ لأنه قد يتخلَّف فيمتنع التسليم (5).
والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم، لكن ضيَّقوا ما وَسَّع اللَّه، وشرطوا ما لم يشرطه، وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة: أما القياس فإنه أحد العوضين، فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن، وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس، إذ الحاجة التي لأجلها شرع اللَّه ورسوله السلم (6) الارتفاقُ من الجانبين، هذا يرتفقُ بتعجيل الثمن، وهذا يرتفقُ برخص المثمن، وهذا قد يكون في مُنقطعِ الجنس كما قد يكون في مُتَّصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد.
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(رقم 4064)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(2/ 554 رقم 2948)، والحاكم (2/ 286)، والبيهقي (6/ 18، 19) عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس عنه.
وإسناده حسن، أبو حسان الأعرج صدوق.
وأخرج ابن جرير (3/ 116)، وابن أبي حاتم (2/ 5540 رقم 2947) عن ابن أبي نجيح عن ابن عباس قال:"السلم في الحنطة كيل معلوم".
وانظر: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة"(1/ 159 - 160) للشيخ الدكتور عبد العزيز الحميدي.
(3)
في (ن): "الذمة".
(4)
في (ك) و (ق): "تأخّر".
(5)
في (ن): "السلم".
(6)
في (ن): "في السلم" وفي (ق): "شرع اللَّه ورسوله السلم لأجلها".