الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالاستصحابُ: استفعالٌ من الصحبة، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفي ما كان منفيًا (1)، وهو ثلاثة أقسام:
استصحاب البراءة الأصلية
، و
استصحاب الوصف المُثْبت للحكم
الشرعي حتى يثبت (2) خلافه، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.
[استصحاب البراءة الأصلية]
فأما النوع الأول (3) فقد تنازع الناسُ فيه: فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين: إنه يصلح للدفع لا للإبقاء، كما قاله بعض الحنفية، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال [لا](4) لإبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم، لا إلى عدم المُغيِّر له، فإذا لم نجد دليلًا ناقلًا ولا مثبتًا (5) أمسكنا، لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع (6) بالاستصحاب دعوى مَنْ أثبته (7)، فيكون حالُ المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل؛ فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها، لا أنه (8) يقيم دليلًا على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض؛ فالمعارض لون والمعترض لون، فالمعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلًا على نقيضه (9)، وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه، [قالوا: لأنَّه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه] (10).
[استصحاب الوصف المثبت للحكم]
ثم النوع الثاني استصحابُ الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، وهو حجة، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح (11)
(1) في (ك): "منتفيًا".
(2)
في (ك) و (ق): "حيث ثبت"، واحتمل في هامش (ق) ما أثبتاه.
(3)
في (ن): "فأما القسم الأول".
(4)
ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك) ووقع في (ق): "يصلح للدفع".
(5)
في (ن): "ناقلًا ولا مبينًا"، وفي المطبوع و (ك):"نافيًا ولا مثبتًا".
(6)
في (ق): "بل يدفع".
(7)
في (ق): "يثبته".
(8)
في (ق) و (ك): "لأنه".
(9)
في (ن): "نقضه".
(10)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(11)
في (ن): "وحكم استصحاب بقاء النكاح".
وبقاء الملك وشُغل الذمة بما تُشغل به (1) حتى يثبت خلاف ذلك، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد:"وإن وجَدْتهُ غريقًا فلا تأكله، فإنك لا تَدْري الماءُ قَتَله أو سهمُك"(2) وقوله: "فإن خالطها (3) كلامه من غيرها فلا تأكل، فإنك إنما سَمَّيت على كلبك ولم تُسمِّ على غيره"(4) لما كان الأصلُ في الذبائح التحريم وشَكَّ هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيدُ على أصله في التحريم، ولما كان الماء طاهرًا فالأصل (5) بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك، ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث، بل قال:"لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"(6)، ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمَّته أمر الشاكَّ أن يبنى على اليقين ويطرح الشك (7)، ولا يعارض هذا
(1) في (ن): "تشتغل به".
(2)
رواه البخاري (5484) في (الذبائح والصبد): باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، ومسلم (1929)(6، 7) في (الصيد والذبائح): باب الصيد بالكلاب المعلَّمة، من حديث عدي بن حاتم.
وفي البخاري: "فإنك لا تدري أيها قتل".
(3)
في (ن): "خالطته"، وفي (د):"وإن خالطها".
(4)
أخرجه الخاري في "الصحيح"(كتاب الذبائح والصيد): باب إذا أكل الكلب (9/ 609/ رقم 5483)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيد والذبائح): باب الصيد بالكلاب المعلمة (3/ 1529/ رقم 1929) عن بيان عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب.
قال: "إذا أرسلت كلابك المعلَّمة، وذكرت اسم اللَّه، فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن؛ إلا أن يأكل الكلب؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، لأن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل". لفظ البخاري.
(5)
في (ق): "في الأصل".
(6)
رواه البخاري (137) في (الوضوء): باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، و (177) باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القُبُل والدُبُر، و (2056) في (البيوع): باب من لم يَرَ الوساوس ونحوها من الشبهات، ومسلم (361) في الحيض: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلِّي بطهارته تلك، من حديث عبد اللَّه بن زيد.
وفي الباب عن أبي هريرة: رواه مسلم (362)، وانظر:"الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 17)، وتعليقي عليه.
(7)
يشير إلى ما أخرجه مسلم (571): (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): باب السهو في الصلاة والسجود له من حديث أبي سعيد الخدري رفعه: "إذا شك أحدكم في صلاته، =
رفعهُ للنِّكاح المتيقِّن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين (1)؛ فإن أصل الأبضاع على التحريم، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية، وقد عارض هذا الظاهر ظاهرٌ مثله أو أقوى منه وهو الشهادة، فإذا تعارضا تساقطا (2) وبقي أصلُ التحريم لا معارض له؛ فهذا الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عين الصواب ومحض القياس، وباللَّه التوفيق.
ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين، مثاله أن مالكًا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ، لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذِمّته (3)، فإن قلتم: لا نخرجه من الطهارة [بالشك](4)، قال مالك:[ولا ندخله في الصلاة بالشك](5)، فيكون قد خرج منها بالشك، فإن قلتم: يقين (6) الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك، قال منازعكم (7): وبقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا (8) يعود بالشك، قالوا: والحديث الذي تحتجون به من أكبر حُجَجِنا، فإنه مَنَع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقَّنة أن يخرج منها بالشك، فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك (9)؟ ومن ذلك لو شك هل طَلَّق واحدة أو ثلاثًا فإن مالكًا يلزمه بالثلاث؛ لأنه تيقن طلاقًا وشك هل هو ممَّا تُزيلُ أَثَره الرَّجعةُ أم لا، وقول الجمهور في هذه المسألة أصح؛ فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك، ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا
= فلم يدر كم صلّى، ثلاثًا أو أربعًا، فليطرح الشك، وليَبْن على ما استيقن، ثم يسجدُ سجدتين قبل أن يُسَلِّم، فإن كان صلّى خمسًا، شَفَعْنَ له في صلاته، وإنْ كان صلّى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان".
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في (ك): "وتساقطًا"، انظر -لزامًا- "القواعد الفقهية" لابن رجب (3/ 162 - بتحقيقي).
(3)
انظر: "بدائع الفوائد"(3/ 272)، و"إغاثة اللفهان"(1/ 175 - 176).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(5)
بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "لا يدخل في الصلاة".
(6)
في (ق) و (ك): "تيقن".
(7)
في المطبوع و (ق) و (ك): "منازعهم".
(8)
في (ق): "ولا".
(9)
كتب هنا في هامش (ق): "في صحيح مسلم" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؛ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، قال الجمهور: وهذا عام في حال الصلاة وغيرها".
قلت: وانظر تفصيل المسألة في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 17 - بتحقيقي).