الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حِلِّها اكتفاء بتقليد أربابها" جوابه أن هذا ليس تقليدًا في حكم من أحكام اللَّه ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداءٌ واتباع لأمر اللَّه ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًا أو نصرانيًا أو فاجرًا اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول اللَّه إن ناسًا يأتوننا باللُّحْمان لا ندري أذكروا اسم اللَّه عليها أم لا، فقال: "سمُّوا أنتم وكُلوا" (1) فهل يَسوغُ لكم تقليدُ الكفار والفساق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ فدعوا (2) هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب اللَّه وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا نتحيَّز إلى شخص معين غير الرسول، نقبل قولَه كُلَّه، ونردُّ قول (3) مَنْ خالفه كلَّه، وإلا فاشهدوا بأنَّا أولُ منكرٍ لهذه الطريقة وراغبٍ عنها داعٍ إلى خلافها، واللَّه المستعان.
[هل كُلِّف الناس كلهم الاجتهاد
؟]
الوجه الثاني والستون: قولكم: "لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد وتعطَّلت الصنائع والمتاجر وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا" فجوابه من وجوه؛ أحدهما: أن من رحمة اللَّه سبحانه بنا ورأفته [أنه](4) لم يكلْفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنَّا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يَدري عددهم في الحقيقة إلا اللَّه، فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وانتشر الإسلام بحمد اللَّه وفضله وبلغ ما بلغ الليل، فلو كُلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العبث (5) والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا إن كلفنا بتقليد كل عالم، وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم
(1) رواه البخاري (2075) في (البيوع): باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات، و (5507) في (الذبائح): باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، و (7398) في (التوحيد): باب السؤال بأسماء اللَّه تعالى والاستعاذة، من حديث عائشة.
(2)
في (ق) و (ك): "فتدعوا".
(3)
مكررة في (ق).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
في المطبوع: "العنت".
فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير (1) من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلًا عن المقلد الذي هو كالأعمى، وإن كلفنا بتقليد البعض وكان جعل ذلك إلى تشهِّينا واختيارنا صار دين اللَّه تبعًا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال؛ فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى من أمر اللَّه باتباع قوله وتلقِّي الدين من بين شفتيه، وذلك محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب رسول اللَّه وأمينه على وحيه وحجته على خلقه، ولم يجعل اللَّه هذا المنصب لسواه (2) بعده أبدًا. الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد مَنْ يُخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. والثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يُصدِّق الرسول فيما أخبَر به ويطيعه فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفةِ أمره وخَبَرَه، ولم يُوجب اللَّه سبحانه من ذلك على الأُمَّة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم. وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل اللَّه له نورًا. قال الإمام أحمد: ولولا العلم كان الناس كالبهائم، وقال: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه كل وقت (3). الرابع: أن الواجب على العبد (4) أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة رضي الله عنهم قائمين بمصالحهم ومعايشهم (5) وعمارة حروثهم والقيام على مواشيهم والضَّرْب في الأرض لمتاجرهم والصفق بالأسواق (6)، وهم أهدى العلماء الذي لا يُشقُّ في العلم
(1) في (ق) و (ك): "بكثير كثير".
(2)
في (د): "سواه".
(3)
قاله أحمد في رواية حرب، كما في "الآداب الشرعية"(2/ 46 - ط القديمة).
(4)
في المطبوع و (ن): "على كل عبد".
(5)
في المطبوع: "ومعاشهم".
(6)
في (ق) و (ك): "في الأسواق". يشهد لهذا نصوص عديدة وكثيرة منها:
ما أخرجه عباس الدُّوري في "تاريخ ابن معين"(2/ 207) بسنده الصحيح إلى سعيد بن المسيب؛ قال: "كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتَّجرون في البحر، منهم سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد اللَّه". =