الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ترتيب الحد تبعًا لترتيب الجرائم]
ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطرف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفْسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد (1)، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد [هذه] الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتةً (2) غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة -وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة- جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوّى بين الناسِ في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمةَ الشرع، واختلفَت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير [من](3) النصوص، ورأى عمر قد زاد في حد الخَمرِ على أربعين (4) والنبي صلى الله عليه وسلم إنما جلد أربعين (5)، وعزر بأمور لم يعزر بها النبي صلى الله عليه وسلم (6)، وأَنفذَ على الناس أشياء عفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم (7)، فيَظن ذلك تعارضًا وتناقضًا، وإنما أتي من قصور علمه وفهمه، وباللَّه التوفيق.
فصل [سوّى اللَّه بين العبد والحر في أحكام وفرق بينهما في أخرى]
وأما قوله: "وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر، وحاجتهما إلى الزجر واحدة" فلا ريب أن الشارع فَرَّق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام؛ فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات الثلاثة (8) كالطهارة والصلاة و [الصوم لاستوائهما في سببهما، وفرَّق بينهما في العبادات المالية](9) كالحج والزكاة والتكفير بالمال؛ لافتراقهما في سببهما، وأما الحدود فلما كان وقوعُ المعصية من الحر أَقبحَ من وقوعها من العبد من جهة كمال
= قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ومسلم (86) في (الإيمان): باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، من حديث ابن مسعود.
(1)
انظر: "زاد المعاد"(2/ 113 - 115، 3/ 210)، و"الحدود والتعزيرات"(ص 224 - 244).
(2)
في (ق): "تفاوته"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه، وما بين المعقوفتين سقط منها.
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
و (5) و (6) و (7) كل هذا سبق تخريجه.
(8)
في المطبوع: "البدنية".
(9)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
نعمة اللَّه تعالى عليه بالحرِّية، وأن جعله مالكًا لا مملوكًا، ولم يَجْعله تحت قَهْر غيره وتصرفه فيه، ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عَوض اللَّه عنها من المباحات، فقابل النعمة التامة بضدها، واستعمل القدرة في المعصية، فاستحقَّ من العقوبة أكثر مما يستحقه من هو أخفضُ منه (1) رتبةً وأنقص منزلة؛ فإن الرجل كلما كانت نعمةُ اللَّه عليه أتم كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم؛ ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] (2) وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 30، 31] وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها؛ فإن العبدَ كلما كمُلت نعمة اللَّه عليه ينبغي له أن تكونَ طاعتُه له أكمل، وشكره له أتم، ومعصيته له أقبح، وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية؛ ولهذا كان أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالمًا لم ينفعه اللَّه بعلمه (3)، فإن نعمة اللَّه عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل، وصدورُ المعصية منه أقبحُ من صدورها من الجاهل، ولا يستوي عند الملوك والرؤساء مَنْ عصاهم من خواصِّهم وحشمهم ومن هو قريبٌ منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء؛ فجعل حد العبد أخف من حد الحر، جمعًا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه، ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة، إظهارًا لشرف الحرية وخطرها، وإعطاءَ كل (4) مرتبة حقها من [الأمر كما أعطاها حقها من](5) القدر، ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين (6)، بل هذا محض الحكمة؛ فإن العبد كان عليه في الدنيا حَقَّان: حق للَّه وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرًا، فاتفقت حكمة الشرع والقَدَر والجَزاء، والحمد للَّه رب العالمين.
(1) تحرفت في (ق) و (ن) و (ك) إلى: "أخص منه"!.
(2)
بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "إلى قوله".
(3)
بهذا اللفظ ورد حديث مرفوع لكنه لا يصح كما فصله شيخنا الألباني رحمه الله في "الضعيفة"(1634) وقد صح بمعناه أحاديث كثيرة بعضها في "الصحيحين".
(4)
في (د): "لكل".
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(6)
روى البخاري في صحيحه (97) في العلم: باب تعليم الرجل أمته وأهله -وأطرافه هناك- ومسلم (154) في الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس من حديث أبي موسى مرفوعا: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين. . . وعبد مملوك أدى حَقَّ اللَّه تعالى وحق سيده، فله أجران. . ." وقد جمع السيوطي رسالة في الخصال التي يُعطى العبد بسببها في الآخرة أجرين سماها: "مطلع البدرين" وهي مطبوعة.