الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[دعوة رسول اللَّه عامة]
الوجه السادس والعشرون: أن دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَنْ بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاتُه وكيفيّاتُه باختلاف الأحوال. ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعْرضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قولٌ غير قوله، ولم يكن أحدٌ منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلًا، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتمُّ الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة. ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته، ولا هو مختص بالصحابة؛ فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه اللَّه ورسوله.
[الأقوال لا تنحصر وقائلوها غير معصومين]
الوجه السابع والعشرون: أن أقوال العلماء وآراءهم لا تَنضبط ولا تنحصر، ولم تُضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا؛ فلا يكون اتفاقهم إلا حقًا، ومن المحال أن يُحيل (1) اللَّه ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر، ولم يَضمن لنا عصمته من الخطأ، ولم يُقم لنا دليلًا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر، بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله، هذا محال أن يَشرعَه اللَّه أو يَرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولًا والآخر كاذبًا على اللَّه فالفرض حينئذ ما يعتمدهُ هؤلاء المقلدون مع متبوعيهم (2) ومخالفيهم.
[العِلْمُ يَقِلُّ]
الوجه الثامن والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ"(3) وأخبر أن العلم يقل، فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق، ومعلوم أن كُتَب المقلِّدين قد طَبَّقت شرق الأرض وغربها، ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت، ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة، والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه، وشهرتها في الناس خلاف الغربة، بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره؛ فلو كانت هي العلم الذي بعث اللَّه به رسوله
(1) في المطبوع: "يحيلنا".
(2)
في المطبوع و (ك): "متبوعهم".
(3)
سبق تخريجه.
لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم (1) في شهرة وظهور، وهو خلاف ما أخبر به الصادق.
الوجه التاسع والعشرون: أن الاختلافَ كثيرٌ في كتب المقلدين وأقوالهم، وما كان من عند اللَّه فلا اختلافَ فيه، بل هو حق يُصدِّق بعضُه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض، وقد قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
الوجه الثلاثون: أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدًا دون عمرو، بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد [هذا](2) الآخر عند المقلدين، فإن كان قول من قلّده أولًا هو الحق لا سواه فقد جوّزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه، وهذا محال، وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق. وإن قلتم:"القولانِ المتضادانِ المتناقضانِ حقٌّ" فهو أشدُّ إحالةً، ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة.
الوجه الحادي والثلاثون: أن يُقال للمقلِّد: بأي شيء عرفت أنّ الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده؟ فإن قال: "عرفته بالدليل" فليس بمقلد، وإن قال:"عرفته تقليدًا له؛ فإنه أفتى بهذا القول ودَانَ به وعِلْمُه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقولَ غير الحق" قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن قال بعصمته أبْطل، وإن جَوَّز عليه الخطأ قيل له: فما يؤمِّنُك أن يكونَ قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره؟ فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور، قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده، وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجَب الأجر، بل قد فَرَّطت في الإتِّباع الواجب فأنت إذن مأزور. فإن قال: كيف يأجُرُه اللَّه على ما أفتى به ويمدحُه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه؟ وهل يُعقل هذا؟ قيل له: المستفتي إن هو قصّر وفرّط في معرفته الحق مع قدرته عليه لَحِقَه الذم والوعيد، وإن بَذَلَ جُهده ولم يقصِّر فيما أُمِر به واتقى اللَّه ما استطاع فهو مأجور أيضًا. وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنُها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده، فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والثواب (3)؛ وإن قيل وهو الواقع: اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو
(1) في (ق): "وزيادة العلم".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(3)
في المطبوع: "والصواب".