الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من ردَّ الحق مَرجَ عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب، كما قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5].
[أمر عمر شريحًا بتقديم الكتاب ثم السنة]
الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شُريح: "أنِ أقضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبما في سنة رسول اللَّه، فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه فبما قضى به الصالحون"(1) فهذا من أظهر الحجج [عليكم](2) على بطلان التقليد؛ فإنه أَمَره أن يُقدِّم الحكم بالكتاب على كل ما سواه، فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها، فإن لم يجده في السنة قضى [بمثل ما](3) قضى به الصحابة، ونحن نناشد اللَّه فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدّث أحدٌ منهم نَفْسَه أن يأخذ حكمها من كتاب اللَّه ثم ينفذه، فإن لم يجدها في كتاب اللَّه أخذها من سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة؟ واللَّه يشهدُ عليهم وملائكتُه وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلَّدوه، وإن استبانَ لهم في الكتاب أو السنة أو عن الصحابة (4) خلافُ ذلك لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه؛ فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم، وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم.
[طريق المتأخرين في أخذ الأحكام]
فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا (5) عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولًا: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا [في](6) سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع (7)، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به (3)
(1) سبق تخريجه.
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "بما".
(4)
في المطبوع: "أو أقوال الصحابة".
(5)
في (ق): "سارعوا".
(6)
ما بين المعقوفتين زيادة من المطبوع.
(7)
انظر بحث ابن القيم رحمه الله حول الإجماع في "كتاب الصلاة"(ص 51 - 52)، و"حادي الأرواح"(ص 288)؛ فإنه مهم.
وحكم به، وهذا خلاف ما دَلَّ عليه حديث معاذ وكتاب عمر (1) وأقوال الصحابة. والذي دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدورٌ مأمور، فإن عِلْمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحُكْم؛ وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يُحيلنا اللَّه ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللَّذين هدانا بهما، ويسَّرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدِّم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغُ له ترك الحق المعلوم إلى أمر (2) لا علم له به وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه شكًا متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم على هذا (3) رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع (4) فما لم ينقرض عصرهم فلِمَن نشأ في زمنهم أن يخالِفَهم، فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإِجماع حتى يعلَم أن العصرَ انقرض ولم ينشأ فيه مخالفٌ لأهله؟ وهل أحالَ اللَّه الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطّلاع لأفرادهم عليه؟ وترك إحالَتَهم على ما هو بين أظهرهم حجة [عليهم](5) باقية إلى آخر الدهر مُتَمكِّنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه، وهذا من أمحل المحال، وحين نشأت هذه الطريقة توَّلد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتَح بابُ دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلافُ الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على مَنْ ارتكبه، وكذَّبوا من ادّعاه؛ فقال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابنه عبد اللَّه: من
(1) سبق تخريجهما مطولًا.
(2)
في (ك): "مراد".
(3)
في المطبوع: "كيف يستقيم هذا على".
(4)
انظر هذا المبحث في: "التمهيد"(3/ 346)، و"شرح الكوكب المنير"(2/ 246)، و"المسودة"(320)، و"العدة"(4/ 1905)، و"البرهان"(1/ 693)، و"البحر المحيط"(4/ 514)، و"أصول السرخسي"(1/ 315)، و"الإحكام"(1/ 231) للآمدي، و"المستصفى"(1/ 192).
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).