الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فجعل الواجب من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل، ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عام مرة كما جل الصيام كذلك، ولما كانت الصلاة لا يشق فعلها كل يوم وضعها (1) كل يوم وليلة، ولما كان الحج يشق تكرر وجوبه كل عام جعله وظيفة العمر.
وإذا تامل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده وينفع الفقير أخذه، ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية، ونفع آخذيه (2)، وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه؛ فأوجب زكاة العين في الذهب والورق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها، وأوجب زكاة السائمة في الإبل والبقر والغنم دون الخيل والبغال والحمير ودون ما يقل اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها ودون الطير كله، وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه وهو الحبوب والثمار دون البقول والفواكه والمقاثي والمباطخ والأنوار (3).
وغير خافٍ تميز ما أوجب فيه الزكاة عما لم يوجبها فيه في جنسه ووصفه ونفعه وشدة الحاجة إليه وكثرة وجوده، وأنه جارٍ مجرى الأموال (4) لما عداه من أجناس الأموال، بحيث لو فقد لأضر فقده بالناس، وتعطل عليهم كثير من مصالحهم، بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاة فإنه جار مجرى الفضلات [والتتمات](5) التي لو فقدت لم يعظم الضرر بفقدها، وكذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين: أحدهما حاجة الآخذ، والثاني نفعه؛ فجعل المستحقين لها نوعين: نوعًا لحاجته، ونوعًا يأخذ لنفعه، وحرّمها على من عداهما (6).
فصل [حكمة قطع يد السارق دون لسان القاذف مثلًا]
وأما قوله: "وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية (7)، ولم يقطع فرج
(1) في المطبوع: "وظفها".
(2)
في المطبوع و (ك): "الآخذ به".
(3)
"المقاثي: جمع مقثأة: موضع القثاء. والمباطخ: جمع مبطخة: موضع البطيخ. والأنوار: جمع نوار، أو نور، وهو الزهر"(و).
(4)
في (ن): "مجاري الأموال".
(5)
ما بين المعقوفتين سقط في (ق)، وبدله في (ن) بياض.
(6)
انظر: "زاد المعاد"(1/ 148) للمصنف.
(7)
في (ن) و (ق) و (ك): "تباشر الجناية".
الزاني وقد باشر به الجناية، ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف" فجوابه أن هذا من أدلِّ الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
ونحن نذكر فصلًا نافعًا في الحدود ومقاديرها، وكمال ترتيبها (1) على أسبابها، واقتضاء كل جناية لما رُتِّب عليها دون غيرها (2)، وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح، ونورد أسئلة لم يوردها هذا السائل، وننفصل عنها بحول اللَّه وقوته (3) أحسن انفصال، واللَّه المستعان وعليه التكلان.
إن (4) اللَّه جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤُه لمَّا خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوَ عباده وليختبرهم أيهم أحسنُ عملًا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجًا عنها، فجعلَ في أنفسهم العقولَ الصحيحةَ والأسماعَ والأبصارَ والإراداتِ (5) والشهواتِ والقوى والطبائعَ والحبَّ والبغضَ والميلَ والنُّفورَ والأخلاقَ المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسبِّبه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه، وتكره حصولها (6) فتدفعه عنها، ثم أكَّد أسباب هذا الابتلاء بأن وكَّل بها قُرناءَ من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيّرة العادلة الطيبة، وجعل دواعي القلب وميوله مترددة بينهما؛ فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر أخرى (7)، ليتمَّ الابتلاء في دار الامتحان، وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء، وكلاهما من الحق الذي خلق اللَّه السماوات والأرض به ومن أجله، وهما مقتضى ملك الرب وحمده؛ فلا بد أن يَظهَر ملكُه وحمدُه فيهما كما ظهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رُسُله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره، وأقام سوقَ الجهاد لما حصل من المُعاداة والمُنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به، فلم يكن بُد من حصول مقتضى الطبائع البشرية (8) وما قارنها من الأسباب من التنافس
(1) في المطبوع: "ترتبها".
(2)
في (ق) و (ك): "غيره".
(3)
في (ق) و (ك): "بحول اللَّه وعونه".
(4)
في (ق): "فإن".
(5)
تحرفت في (ق) و (ن): و"الأدوات".
(6)
في (د): "حصوله".
(7)
في المطبوع: "مرة".
(8)
في المطبوع و (ن): "مقتضى الطباع البشرية".
والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدّي ما حَدَّ له والتقصير عن كثير مما تعبد به، وسهّل ذلك عليها اغترارَها بموارد المعصية مع الإعراضِ عن مصادِرِها، وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجَّله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولها على الحاضر المشاهد، وتجافيها عن الغائب الموعود، وذلك موجَبُ ما جُبلت عليه من جهلها وظلمها؛ فاقتضت أسماءُ الربِّ الحُسنى وصفاتُه العليا وحكمتُه البالغةُ ونعمتُه السابغةُ ورحمتُه الشاملةُ (1) وجودَه الواسع أن لا يضْرب عن عباده الذكر صفحًا، وأن لا يتركهم سُدى، ولا يُخفيهم ودواعي نفوسهم (2) وطبائعهم، بل ركَّب في فطرهم وعقولهم معرفةَ الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة (3) ومعرفة أسبابها، ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عَرَّفهم به مفصلًا على ألسنة رسله، وقطع معاذيرهم بأن أقام على صِدْقهم من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] وصرّف لهم طُرقَ الوَعْد والوعيد والترغيب والترهيب، وضربَ لهم الأمثالَ وأزال عنهم كُلَّ إشكال، ومكَّنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين، وأعانهم عليه بكل سبب، وسَلَّطهم على قهر طباعهم بما يجرُّهم إلى إيثار العواقب على المبادئ ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها، وأرشدهم إلى التفكر والتدبُّر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين، وأكمل لهم دينَهم، وأتمَّ عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة، وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون عَلمًا وأمارةً لتحقيق ما أَخَّره عنهم في دار الجزاء والمثوبة، ويكون العاجل مذكرًا بالآجل، والقليل المُنقطع بالكثير المُتّصل، والحاضر الفائت مُؤذنًا بالغائب الدائم، فتبارك [اللَّه](4) رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقْدُرْه حقَّ قدره ممن أنكر أسماءَه وصفاتِه وأَمْرَه ونهيه ووَعْدَه ووعيده، وظن به ظن السوء فأرداهُ ظنُّه فأصبح من الخاسرين.
(1) في (ن) و (ق): "ورحمته الواسعة".
(2)
في (د): "أنفسهم".
(3)
في (ق) و (ك): "والكدر"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة ما أثبتناه.
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (ط).