الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُفَقِّهه (1) في الدين ويعلمه التأويل (2)، والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهمُ المعنى المراد (3)، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيَّتُه وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون بُطلانَه، واللَّه يعلم بطلانه.
فصل [اختلفوا هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث
.
رأي الفرقة الأولى]
والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق: فرقة قالت: [إن](4) النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعُشر معشارها (5)، قالوا: فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، ولعمرُ اللَّه إن هذا مقدار [النصوص في](6) فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر، واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وهذا احتجاج فاسد [جدًا] (4) من وجوه:
أحدها: أن مالا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يُجعل أنواعًا، فيُحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع.
الثاني: أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية.
الثالث: أنه لو قُدِّر عدم تناهيها فإن أفعال (7) العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية، وهذا كما تُجعل الأقارب نوعين: نوعًا مباحًا، وهو بنات العَمِّ والعمة وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام، وكذلك تجعل ما ينقض الوضوء محصورًا، وما سوى ذلك لا ينقضه، وكذلك ما يفسد الصوم، وما يوجب الغسل وما يوجب العدة، وما يُمنع منه المحرمُ، وأمثال ذلك، وإذا كان أرباب المذاهب
(1) في (ق): "يفهمه" وفي الهامش: "صوابه يفقهه".
(2)
سبق تخريجه.
(3)
في (ق) و (ك): "هو معنى المراد".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
انظر: "الإحكام" لابن حزم، "مجموع فتاوى ابن تيمية"(19/ 280).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(7)
في (ق): "تناهيها فأفعال العباد".
يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يَحلُّ ويَحرمُ عندهم مع قصور بيانهم فاللَّه ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كليَّة تجمع أنواعًا وأفرادًا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس.
وهذا كما سئل صلى الله عليه وسلم أنه عن أنواع من الأشربة كالبتْع والمِزْر (1)، وكان قد أوتي بجوامع الكلم فقال:"كل مسكر حرام"(2)، و"كُلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"(3)، و"كُل قرضٍ جر نفعًا فهو ربا"(4)، و"كُلُّ شرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو
(1)"البتع": بكسر فسكون: أي: كعنب نبيذ العسل المشتد أو سلالة العنب، والمزر: نبيذ الذرة والشعير" (و).
(2)
أخرجه البخاري في "الصحيح"(كتاب المغازي): باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (8/ 4343/62 و 4344 و 4345)، من حديث أبي موسى.
وفي "صحيح البخاري"(كتاب الأشربة): باب الخمر من العسل (10/ 41/ 5585)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأشربة: باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام (3/ 1585/ 2001) عن عائشة قالت: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن البِتْع؟ فقال: "كل شراب أسكر؛ فهو حرام".
وأخرجه مسلم برقم (2002) عن جابر مرفوعًا بلفظ: "كل مسكر حرام"، وبرقم (2003) عن ابن عمر مرفوعًا:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام".
(3)
أخرجه البخاري في "الصحيح"(كتاب الصلح): باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (5/ 301/ رقم 2697)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الأقضية): باب نقض الأحكام الباطلة، وردّ محدثات الأمور (3/ 1343/ رقم 1718) بلفظ:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"، وورد بلفظ:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، علقه البخاري في "صحيحه" (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب إذا اجتهد العامل (13/ 317)، ووصله مسلم في "صحيحه" (كتاب الأقضية): باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/ 1343 - 1344).
وانظر: "فتح الباري"(5/ 302)، و"تغليق التعليق"(3/ 396 و 5/ 326).
(4)
أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(رقم 437 - زوائده)، وأبو الجهم الباهلي في "جزئه"(ق 63/ أ/ ب أو رقم 92 - ط الرشد) والبغوي في "حديث العلاء بن مسلم"(ق 280) -كما في "الإرواء"(5/ 235) - من طريق سوار بن مصعب عن عمارة الهمداني عن علي.
قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": "هذا إسناد ساقط وسوار متروك الحديث"، وكذا قال السخاوي، وابن حجر في "التلخيص"(3/ 34)، وتبعه الشوكاني في "النيل"(5/ 232)، وقال البوصيري في "إتحاف المهرة" (3/ 34/ ب): "وهذا إسناد ضعيف، لضعف سوّار بن مصعب الهمذاني، وله شاهد وهو موقوف على نضلة بن عبيد، ولفظه: =
باطلٌ" (1)، و"كل المسلم على المسلم حرام دمُه وماله وعرضه" (2)، و"كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" (3)، و"كل مُحدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة" (4)،
= "كل قرض جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا" رواه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "سننه"، واللفظ له" انتهى.
وفي معناه ما رواه ابن ماجه (2432)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 350) من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يُقرض أخاه فيُهدي له؟ فرفع معنى الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(2/ 48): هذا إسناد فيه مقال، عتبة بن حميد ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إسحاق الهنائي لا يُعرف حاله.
ووقع في مطبوع "السنن الكبرى": "يزيد بن أبي يحيى" بدل يحيى بن أبي إسحاق، وهو وهم.
(1)
رواه البخاري في مواطن منها: (2155) في البيوع: باب الشراء والبيع مع النساء، و (2561) في المكاتب: باب ما يجوز من شروط المكاتب، و (2717) في الشروط: باب الشروط في البيوع، ومسلم (1504) في العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة.
(2)
رواه مسلم (2564) في (البر والصلة): باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، من حديث أبي هريرة.
(3)
رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 235 - 236)، ومن طريقه البيهقي في "سننه"(10/ 319) من طريق عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة مرفوعًا.
وقال البيهقي: "هذا مرسل، حبان بن أبي جبلة القرشي من التابعين".
وعبد الرحمن بن يحيى الصدفي أخو معاوية بن يحيى لَيّنه أحمد.
وقال المناوي في "فيض القدير"(5/ 9): "أشار المصنف لصحته، وهو ذهول أو قصور، فقد استدرك عليه الذهبي في "المهذب"، فقال: قلت: لم يصح مع انقطاعه" أ. هـ.
وله طريق آخر عند البيهقي في "سننه"(6/ 178) من طريق سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي سعيد عن عمر بن المنكدر مرفوعًا بلفظ: "كل ذي مال أحق بماله".
ولم أجد في الرواة من اسمه عمر بن المنكدر فلعله محمد بن المنكدر كما استظهره شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة"(رقم 359)، وبشير هذا استظهر كذلك أنه ابن سعيد المترجم في "الجرح والتعديل" ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه شيئًا، وهو مرسل أيضًا.
(4)
أخرجه مسلم في "الصحيح"(كتاب الجمعة): باب تخفيف الصلاة والخطبة (867)، عن جابر رضي الله عنه.
و"كُلُّ معروفٍ صدقة"(1) وسَمَّى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية جامعة فاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (2)[الزلزلة: 7، 8] ومن هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] فدخل في الخمر كل مسكرٍ، جامدًا كان أو مائعًا، من العنب أو من غيره، ودخل في الميسر كل أكل مالٍ بالباطل، وكل عمل محرم يُوقع في العداوة والبغضاء ويصدُ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، ودخل في قوله (3):{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] كل يمين منعقدة، ودخل في قوله:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] كل طَيّبٍ من المطاعم والمشارب والملابس والفروج، ودخل في قوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ما لا تُحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللَّطمة والضَّربة والكَسْعة كما فهم الصحابة، ودخل في قوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33] تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة، وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض، وكل شرك باللَّه وإن دَقَّ في قول أو عمل أو إرادة بأن يُجعل للَّه عدلًا بغيره (4) في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد، [وكل قول على اللَّه لم](5) يأتِ به نصٌّ عنه
(1) ورد من حديث حذيفة: رواه أحمد (5/ 383 و 397 و 398 و 405)، ومسلم (1005) في (الزكاة): باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وأبو داود (4947) في (الأدب): باب المعونة للمسلم.
ومن حديث جابر، رواه أحمد (3/ 344 و 360)، والبخاري (6021) في (الأدب): باب كل معروف صدقة، والترمذي (1970) في (البر والصلة): باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر.
(2)
وهي لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر فقال: "ما أنزل عَلي فيها شيءٌ إلا هذه الآية الجامعة الفاذة".
رواه مالك في "الموطأ"(2/ 444)، ومن طريقه البخاري (2371) في (الشرب والمساقاة): باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار، و (2860) في الجهاد: باب الخيل ثلاثة، و (3646) في المناقب، و (4962 و 4963) في (التفسير)، و (7356) في (الاعتصام) باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، ورواه مسلم (987) في (الزكاة): باب إثم مانع الزكاة، من حديث أبي هريرة.
(3)
في (ق): "قوله تعالى".
(4)
في (ق) و (ك): "يجعل عدلًا لغيره".
(5)
بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "وكل قائل على اللَّه ما لم".