الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يُوجب رفع ما كان ثابتًا قبل ذلك من الأحكام؛ فلا يقبل قول المعترض: إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث؛ فإن النزاع (1) لا يرفع ما ثبت من الحكم؛ فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلًا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم، وحينئذ فيكون معارضًا في الدليل لا قادحًا في الاستصحاب، فتأمله فإنه التحقيقُ في هذه المسألة.
فصل [الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد]
الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة (2)، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقدٍ أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من اللَّه بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم (3)، ومعلوم أنه لا حرامٌ إلا ما حَرَّمه اللَّه ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثمَّ اللَّه ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجبَ إلا ما أوجبه اللَّه، ولا حرامَ إلا ما حرمه اللَّه، ولا دينَ إلا ما شرعه؛ فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم (4).
والفرق بينهما أن اللَّه سبحانه لا يُعبدُ إلا بما شرعه على ألسنة رُسُلِه، فإن العبادة حَقُّه على عباده، وحَقُّه الذي أحقَّه هو ورضي به وشَرَعَه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها؛ ولهذا نعى اللَّه سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين (5) -وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما
(1) في (ن): "فإنه".
(2)
انظر مباحث في الشرط في "بدائع الفوائد"(1/ 43 - 60 و 3/ 345)، و"إغاثة اللهفان"(1/ 180)، ووقع في (ق):"عقود المسلمين ومعاملاتهم وشروطهم".
(3)
في (ق): "حكم بالتأثيم والتحريم".
(4)
انظر: "روضة الناظر"(22)، "التبصرة"(533)، "الإبهاج"(1/ 61، 84)، "المسوّدة"(479)، "الإحكام"(1/ 52) للآمدي، "مجموع فتاوى ابن تيمية"(7/ 45 - 46 و 29/ 151 و 21/ 535، 539).
(5)
في (ن): "ولهذا نهى اللَّه سبحانه المشركين عن خلاف هذين الأصلين".
لم يشرعه- وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان [ذلك](1) عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما أحلَّه اللَّه، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكلُّ شَرْط وعَقْد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القولُ بتحريمها؛ فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما (2) عدا ما حَرَّمه؟
وقد أمر [اللَّه تعالى](3) بالوفاء بالعقود والعهود كلها؛ فقال [تعالى](1): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، وقال:{وَالَّذِينَ [هُمْ] (1) لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)} [المعارج: 32]، وقال [تعالى] (1):{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، وقال [تعالى] (1):{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]، وقال؛ {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} [آل عمران: 76]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وهذا كثير في القرآن، وفي "صحيح مسلم" من حديث الأعمش، عن عبد اللَّه بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَنْ كانت فيه خَصْلةٌ منها (4) كانت فيه خَصْلةٌ من النِّفاق [حتى يَدَعَهَا] (1): إذا حَدَّث كَذَب، وإذا عَاهَدَ غَدَر، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا خَاصَم فَجَر"(5) وفيه من حديث سعيد بن المُسيَّب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من عَلاماتِ المنافقِ ثلاثٌ وإن صلى وصَامَ وزعم أنه مسلم: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا ائتُمنَ خانَ"(6)، وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"يُرفعُ لكل غادرٍ لواء يوم القيامة بقدر غَدْرَته، فيُقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان"(7)، وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحقَّ
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في (ق): "ما".
(3)
في (ق): "سبحانه".
(4)
في (د): "منهن" وفي (ق): "فيه خصله منها كان فيه خصلة".
(5)
هو فيه (58) في (الإيمان): باب خصال الإيمان.
وهو في "صحيح البخاري" أيضًا فقد رواه في (الإيمان): (34) باب علامة المنافق، و (2459) في (المظالم): باب إذا خاصم فجر، و (3178) في (الجزية)؛ باب إثم من عاهد ثم غدر من طريق الأعمش به.
(6)
هو فيه (59)(108 و 109 و 110) في الإيمان: باب بيان خصال المنافق.
(7)
رواه البخاري (3188) في (الجزية): باب إثم الغادر للبر والفاجر، و (6177 و 6178) =
الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفُروج" (1)، وفي "سنن أبي داود" عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول اللَّه، واللَّه إني لا أَرجعُ إليهم أبدًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني لا أَخِيسُ (2) بالعهد، ولا أحبس البُرُدَ (2)، ولكن ارْجِع إليهم، فإنْ كانَ في نفسك الذي في نفسك الآنَ فارْجِع" قال: فذهبت ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأَسلمتُ (3)، وفي "صحيح مسلم" عن حذيفة قال:"ما مَنَعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْلٌ، فاخَذَنَا كُفَّارُ قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فاخذوا مِنَّا عَهْدَ اللَّه وميثاقَه لننصرِفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبرَ، فقال: "انْصرِفَا نَفِي (4) لهم بعهدِهم
= في (الأدب): باب ما يُدعى الناس بآبائهم، و (6966)، في (الحيل): باب إذا غصب جاريته فزعم أنها ماتت، و (7111) في (الفتن): باب إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه، ومسلم (1735) في (الجهاد): باب تحريم الغدر.
(1)
رواه البخاري (2721) في (الشروط): باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، و (5151) في (النكاح): باب الشروط في النكاح، ومسلم (1418) في (النكاح): باب الوفاء بالشروط في النكاح.
(2)
"هو بخاء معجمة، أي: لا أنقضه وأخلفه، والبرد: الرسل جمع بريد، وهو الرسول"(ط)، ونحوه في (و).
(3)
رواه أبو داود (2758) في (الجهاد): باب في الإمام يُسْتَجَنُّ به في العهود، والنسائي في "الكبرى"(5/ 205 رقم 8674)، وابن حبان (4877)، والحاكم (3/ 598)، والطبراني في "الكبير"(963)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 145)، والبغوي في "شرح السنة"(11/ 163) من طرق عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع عن جده أبي رافع به.
وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.
ورواه أحمد في "مسنده"(6/ 8) من طريق عبد الجبار بن محمد عن ابن وهب به، وقال: عن أبيه عن جده.
والحسن بن علي هذا ترجمه الحافظ في "التهذيب"، وقال: روى عن جده، وقيل: عن أبيه عن جده، وثقه النسائي، وابن حبان.
قلت: كل من روى الحديث عن ابن وهب ذكر روايته عن جده إلا عبد الجبار بن محمد هذا، وقد ترجمه الحافظ في "تعجيل المنفعة"، ولم يوثقه إلا ابن حبان في "ثقاته"!
وقد ترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئًا، والخطأ في هذا الإسناد منه، واللَّه أعلم.
(4)
في (ق): "نفيء" بالهمز.
ونستعينُ اللَّه عليهم" (1)، وفي "سنن أبي داود" عن عبد اللَّه بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها، فقالت: تعال أُعْطِك، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما أردت أن تعطيه؟ " فقالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو لم تعطيه شيئًا كُتبت عليك كذبة" (2)، وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال اللَّه عز وجل: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غَدَر، ورجلٌ بَاعَ حرًا [فأكل ثمنه]، ورجل استاجر أجيرًا [فاستوفى منه] ولم يُعْطِ أَجْرَه" (3)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يُوفي بالنَّذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام (4)، وهذا عَقْدٌ كان قبل الشرع (5)، وقال ابن وهب: [ثنا هشام بن سعد،
(1) أخرجه مسلم في "الصحيح"(كتاب الجهاد والسير): باب الوفاء بالعهد (1787).
(2)
رواه أبي شيبة (8/ 405)، وأحمد (3/ 447)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 11)، وأبو داود في (الأدب): باب في التشديد في الكذب (4991)، والبيهقي في "سننه الكبرى"(10/ 198 - 199) من طريق محمد بن عجلان عن مولى لعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة العدوي عن عبد اللَّه بن عامر به.
ومولى عبد اللَّه هذا وقع تسميته في بعض الروايات "زيادًا" كما ذكر الحافظ في "الإصابة"، ولم أجد له ترجمة.
وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء": "وله شاهد من حديث أبي هريرة وابن مسعود، ورجالهما ثقات إلا أن الزهري لم يسمع من أبي هريرة".
أقول: وحديث أبي هريرة يأتي.
ووقع في (ك): "تعال أعطيك. . . لكتبت عليك كذبة".
(3)
أخرجه أحمد في "المسند"(2/ 358)، والبخاري في "الصحيح" (كتاب البيوع): باب إثم من باع حرًا (2227)، وفي (كتاب الإجارة): باب إثم من منع أجر الأجير (2270).
وما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وفيه بدل من "لم يُعْط"، "لم يعطيه" وفي (ق):"وأكل ثمنه" وسقط "فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
(4)
رواه البخاري (2032) في (الاعتكاف): باب الاعتكاف ليلة، و (2042) في (الاعتكاف): باب من لم ير عليه -إذا اعتكف- صومًا، و (2043) في (الاعتكاف): باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، و (6697) في "الأيمان والنذور": إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم، ومسلم (1656) (27) في (الأيمان): باب نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم، من حديث ابن عمر.
ورواه البخاري (3144) في فرض الخمس من حديث نافع أن عمر دون ذكر ابن عمر.
(5)
في (ق): "وهكذا كان عقد قبل الشرع".
عن زيد بن أسلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "وأْيُ المؤمن واجب"(1) قال ابن وهب: و] (2) أخبرني إسماعيل بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول:"ولا تَعِدْ أخاك عِدَةً وتخلفه، فإن ذلك يُورثُ بينك وبينه عداوة"(3)، قال ابن وهب: وأخبرني اللَّيثُ بن سعد، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شِهاب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قال لصبِيِّ: تعالَ هذا لك، ثم لم يعطهِ شيئًا فهي كذبة"(4)، وفي "السنن" من حديث كثير بن عبد اللَّه بن زيد بن عَمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه:"المؤمنون عند شروطهم"(5)، وله شاهد من حديث محمد بن
(1) رواه أبو داود في "المراسيل"(523)(ص 352) من طريق ابن وهب ورجاله ثقات.
وفي "المراسيل": مرسل آخر بمعناه (522)، و"الوأي: الوعد" (ط).
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(3)
رواه ابن وهب في "جامعه"(208) لكن قال: وأخبرني مسلمة وغيره عن رجل عن أبي إسحاق فذكره.
وكأنه حصل من المؤلف سبق نظر، فإن الحديث قبله يرويه عن إسماعيل بن عياش.
ومسلمة هذا قال فيه ابن معين ودحيم: ليس بشيء، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث.
وأبو إسحاق هذا هو الهمداني السبيعي وهو ثقة من التابعين، فالإسناد ضعيف جدًا.
ويشهد لأوله: ما رواه الترمذي (1995) في (البر والصلة): باب ما جاء في المراء، والبخاري في "الأدب المفرد"(394)، وابن أبي الدنيا في (الصمت):(123 و 390)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 344) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا:"لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه"، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعبد الملك عندي هو ابن بشير".
أقول: لكن نقل الحافظ العراقي عبارة الترمذي غريب دون قوله: "حسن"(2/ 180)، وقال:"فيه ليث بن أبي سليم وضعفه الجمهور".
(4)
رواه ابن وهب في "جامعه"(514)، وأحمد في "مسنده"(2/ 452)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 142): رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة، ولم يسمعه منه.
ويشهد له حديث عبد اللَّه بن عامر السابق، وفي (ق):"تعال هاه لك".
(5)
رواه الترمذي (1352)، وابن عدي (6/ 2081)، والطبراني في "الكبير"(17/ 30)، والدارقطني (3/ 27)، والبيهقي (6/ 79)، وفي "المعرفة"(10/ 237 رقم 14349)، من طرق كثير بن عبد اللَّه به.
وقال الترمذي: "حسن صحيح"!!
وكثير هذا تكلموا فيه قال الشافعي: من أركان الكذب، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابع عليه. =