الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطًا ضيَّقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه (1)، والصواب الجواز، وهو موجب القياس المحْض، فالمجوّزون أسْعد بالنص من المانعين، وباللَّه التوفيق.
فصل [حمل العاقلة الدية عن الجاني طبق القياس]
ومن هذا الباب قول القائل: "حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس" ولهذا لا تحمل [العاقلة](2) العمدَ (3) ولا العبدَ (4) ولا الصُّلحَ (5) ولا الاعتراف ولا ما دون الثُّلث، ولا تحمل جنايةَ الأموال، ولو كانت على وِفْق القياس لحملت ذلك كُلَّه (6).
والجواب أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونًا كان ضمانُه عليه، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، ولا تُؤخذ نفس بجريرة غيرها؛ وبهذا جاء شرع اللَّه سبحانه
(1) انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير"(4/ 20)، وانظر مذهب الحنفية في "المبسوط"(16/ 33)، ومذهب الشافعية في "روضة الطالبين"(5/ 178 - 179)، و"مغني المحتاج"(2/ 332 - 333).
(2)
ما بين المعقوفتين من نسخة (ك) و (و)، وقال (و):"العقل دية القتيل خطأ المستحقة بالشرع".
(3)
ولا شبه العمد، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(20/ 553)، وهو مذهب مالك خلافًا لجماهير الفقهاء.
(4)
قال (ط): "لأن العبد عبارة عن سلعة من السلع" وقال (د): "كذا"، وفي (ق):"لا تحمل العبد ولا العهد".
(5)
يعني أن كل جناية عمد، فإنها من مال الجاني خاصة، ولا يلزم العاقلة منها شيء، وكذلك ما اصطلحوا عليه من الجنايات في الخطأ، وكذلك إذا أعترف الجاني بالجناية من غير بينة تقوم عليه، وإن ادعى أنها خطأ لا يقبل منه، فلا تلتزم بها العاقلة، وأما العبد فهو أن يجني على حر فليس على عاقلة مولاه شيء من جناية عبده، وإنما جنايته في رقبته، وهو مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو أن يجني حر على عبده، وإنما جنايته في رقبته، وهو مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو أن يجني حر على عبد، فليس على عاقلة الجاني شيء، إنما جنايته في ماله خاصة، وهو قول ابن أبي ليلى، وما بين هذين [] يستلزمه سياق الكلام فوضعته. وفي حديث: لا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا. والعاقلة العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ (و).
(6)
انظر بيان أن حمل العاقلة الدية على وفق القياس: "مجموع فتاوى ابن تيمية"(20/ 553)، و"المعدول به عن القياس"(163 - 165) وانظر في خلافه! "بدائع الصنائع"(7/ 255).
وجزاؤه، وحمل العاقلة الدية غير مناقضٍ لشيء من هذا (1) كما سنبينه، والناس متنازعون في العَقْل: هل تحمله العاقلة ابتداءً أو تحمُّلًا؟ على قولين (2)، كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب (3) أداؤها عن الغير كالزوجة [والولد](4)، هل تجب ابتداءًا أو تحملًا؟ [على قولين](4)، وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تُحمِّلت عنه عن نفسه بغير إذن المُتحمِّل لها؛ فمن قال: هي واجبة على الغير تحملًا قال: تجزئ في هذه الصورة، ومن قال: هي واجبة عليه ابتداءً قال: لا تجزيء، [بل](5) هي كأداء الزكاة عن الغير، وكذلك القاتل إذا لم تكن (6) له عاقلةٌ، هل تجب الدية في ذمة القاتل [أولًا](5)؛ على قولين، بناء على هذا الأصل، والعَقْلُ فارقَ غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم، وذلك أن دية المقتول مال كثير، والعاقلة إنما تحمل الخطأ، ولا تحمل العَمْد بالاتفاق، ولا شبهه على الصحيح، والخطأُ يُعْذَر فيه الإنسان، فإيجاب الدية في ماله فيه ضررٌ عظيم عليه من غير ذنب تعمَّده، وإهدارُ دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثَته، فلا بد من إيجاب بدلِه، فكان من محاسنِ الشَّريعة وقيامها بمصالح العباد أنْ أوجبَ بدله على مَنْ عليهم موالاة القاتل ونُصرته، فأوجب عليهم إعانته على ذلك. وهذا كإيجابِ النفقات على الأقاربِ وكسوتهم، وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاحِ، وكإيجابِ فَكاك الأسير من يد العدو (7)، [فإنه أسير](8) بالدية التي لم يتعمَّد سبَبَ وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع، وليست قليلة؛ فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها، وهذا بخلاف العمد، فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلًا أن يُحمل عنه بدل القتل (9)؛ وبخلاف شبه العمد؛ لأنه قاصد للجناية متعمد لها، فهو آثم معتدٍ،
(1) في (ن): "غير مناقض لهذا".
(2)
انظر: "أحكام الجناية"(335 - 337) للشيخ بكر أبو زيد.
(3)
في (ق): "هل تجب"، وقال في الهامش:"إذا وجب".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن). وانظر في المسألة "الإشراف"(2/ 192 مسألة 515) للقاضي عبد الوهاب، وتعليقي عليه.
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(6)
في (ق): "يكن".
(7)
في المطبوع: "من بلد العدو".
(8)
بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "فإن هذا أسيف" وفي (ق): "فإن هذا أسير"، وفي (ك):"فإن هذا أيسر".
(9)
في (ق) و (ك): "بدل القتيل".
بخلاف بدل المُتلف من الأموال؛ فإنه قليل في الغالب لا يكاد المُتْلِف يعجز عن حمله، وشأن النفوس غير شأن الأموال؛ ولهذا لم تحمل العاقلة ما دون الثلث عند أحمد ومالك (1) لقلّته واحتمال الجاني حمله (2)، وعند أبي حنيفة لا تَحْمِل ما دون أقل المقدّر كأرْشِ المُوضحة (3) وتحمل ما فوقه (4)، وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردًا للقياس (5)؛ وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع؛ وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنًى آخر، وهو أن المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسْري إقراره ولا صلحه، [فلا يجوز إقراره](6) في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليه (7) من الغرامة، وهذا هو القياس الصحيح؛ فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودَعْواه على العاقلة بوجوب المال عليهم؛ فلا يقبل ذلك في حقهم، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره، فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين.
وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم؛ فإن اللَّه سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير، ولا تتم مصالحهم إلا بسدِّ خَلّة الفقير، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد [به](8) خلّة الفقراء، وحرّم الربا الذي يضر بالمحتاج، فكان أمره بالصّدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقتين؛ ولهذا جمع اللَّه
(1) في (ق): "الإمام أحمد ومالك"، وانظر مذهب أحمد في "الإنصاف"(10/ 126)، و"المغني"(9/ 506 - 507)، ومذهب مالك في "الأشراف" للقاضي عبد الوهاب (4/ 144 مسألة 1491) وتعليقي عليه، و"حاشية الخرشي"(8/ 45)، و"القوانين الفقهية"(298)، و"المنتقى"(7/ 102) وهذا اختيار ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(20/ 385).
(2)
في (ق): "لحمله".
(3)
"لموضحة: الشجة التي تبدي وضح العظم، أي: بياضه، والجمع: المواضح والتي فرض فيها خمس من الإبل هي ما كان منها في الرأس والوجه، فأما الموضحة في غيرها، ففيها الحكومة، والأرش: ما يأخذ المشتري من البائع إذا اطلع على عيب، وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها"(و).
(4)
انظر: "الهداية"(4/ 229).
(5)
انظر: "المهذب"(2/ 271).
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).
(7)
في (ق): "عليها".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).