الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيفتونه، ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يُعرف ذلك عن أحد منهم ألبتة، وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود! فهو من لوازم الشرع والقدر. والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد، وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها.
ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أَثريّة ذكرتها فأنت مقلد لحملَتِهَا ورُواتها؛ إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس في يدك (1) إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم، فما الذي سَوَّغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذُنه ما رواه، وهذا عقل بقلبه ما سمعه، فأدَّى هذا مسموعه، و [أدى](2) هذا معقوله، وفرض على هذا تأدية ما سمعه، وعلى هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلُغ منزلتهما القبول منهما؟
ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدل الذي طلب الحق، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، وهذا كمن أراد شراء سِلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء.
[الرد على حجج القائلين بالتقليد]
قال أصحاب الحجة: عجبًا لكم معشر (3) المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله (4)، كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم؟ فما للمقلِّد وما للاستدلال؟ وأين منصب المقلد من منصب المُسْتدل؟ وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس؟ وكنتم في ذلك متشبِّعين بما لم تعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه (5)؟ وذلك ثوبُ زورٍ لبستموه، ومنصبٌ لستم من أهله غصبتموه، فأخبرونا: هل صريح إلى التقليد لدليل قادكم
(1) في المطبوع: "بيدك".
(2)
ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط.
(3)
في المطبوع: "معاشر".
(4)
في (ن) و (ق): "في زمره".
(5)
في (ك): "توفوه".
إليه، وبرهان دلَّكم عليه، فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أو سلكتم سبيله اتفاقًا وبحثًا عن غير دليل (1)؟ وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين [سبيل](2)، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكمٌ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم: لسنا من أهل هذه السبيل، وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل.
والعجب أن كُلَّ طائفةٍ من الطوائف، وكل أمة من الأمم تدَّعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك، ولو ادعوه لكانوا مُبطلين، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهانٍ دلَّهم عليه (3)، وإنما سبيلهم محض التقليد، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم، وقالوا: نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوْا عليه، فإنهم بنوا على الحجة، ونهوا عن التقليد، وأوْصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله، وقالوا: نحن من أتباعهم، تلك أمانيهم، وما أَتْباعهم إلا من سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم.
وأعجب من هذا أنهم مصرِّحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه، وأنه لا يحل القول به في دين اللَّه، ولو اشترط الإِمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته، ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط، وكذلك المفتي يحرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودَةٌ عليه، ثم كلٌّ منهم يعرف من نفسه أنه مقلدٌ لمتبوعه لا يفارق قوله، ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره، وهذا من أعجب العجب.
وأيضًا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلًا منهم يقلّده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم
(1) في المطبوع: "وتخمينا من غير دليل".
(2)
بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض، وسقط من (ك)، وقال في هامش (ق):"لعله: سبيل".
(3)
في (ك): "عليهم".
يأخذ منها شيئًا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على [لسان رسول اللَّه](1) صلى الله عليه وسلم؛ فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال، ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم، ولهم بين يدي اللَّه موقف شديد يعلم فيه من قال على اللَّه ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء.
وأيضًا فنقول لكل من قلَّد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؛ فإن قال: "لأنه أعلم أهل عصره" وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجيء بعده أعلم منه؛ قيل [له](2): وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته؟ فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها من مرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم؟! وهذا أيضًا باب آخر من القول على اللَّه بلا علم، ويقال له:
ثانيًا: فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس [وابن عمر](3) رضي الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك، فهلا قلدتهم وتركته؟ بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك، فلم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه؟ فإن قال:"لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني، فتقليدي له أوجبُ على مخالفةِ قولهِ لقول مَنْ قلَّدتُه؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه (4) من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء" قيل له: ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه مَنْ هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره؟ وقولان معًا متناقضان لا يكونان صوابًا، بل أحدهما هو الصواب، ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه. فإن قلت:"علمت ذلك بالدليل"
(1) بدل ما بين المعقوفتين سقط في (ك) و (ق): "لسانه".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك).
(4)
في (ن) و (ك): "منعه".
فهاهنا إذن قد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال، وأبطلت التقليد.
ثم يقال لك:
ثالثًا: هذا لا ينفعك شيئًا ألبتة فيما اختُلف فيه، فإن من قلَّدته ومن قلده غيرك قد اختلفا، وصار من قلده غيرك إلى موافقة أبي بكر أو عمر أو علي أو ابن عباس (1) أو عائشة وغيرهم دون من قلدته، فهلا نصحت نفسك وهُدِيت لرشدك وقلت: هذان عالمان كبيران، ومع أحدهما مَنْ ذَكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه. ويقال [له]:(2)
رابعًا: إمامٌ بإمام، ويسلم قول الصحابي، فيكون أولى بالتقليد. ويقال:
خامسًا: إذا جاز أن يظفر من قلَّدته بعلم خفي على عمر بن الخطاب وعلى علي بن أبي طالب وعبد اللَّه بن مسعود وذويهم (3) فـ[أحق وأحق و](4) أجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خَفِيَ عليه هو؛ فإن النسبة (5) بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب بكثير من النسبة (6) بين من قلدته وبين الصحابة، والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة. ويقال:
سادسًا: إذا سوّغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلَّا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه؟ وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت؟ ويقال:
سابعًا: هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر اللَّه أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة؟ فإن قال: "نعم"؛ قال ما يعلم اللَّه ورسوله وجميع العلماء بطلانه! وإن قال: "لا"؛ فقد كفانا مؤنته، وشهد على نفسه بشهادة اللَّه ورسوله وأهل العلم عليه.
ويقال:
ثامنًا: تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده؛ فإنه نهاك عن ذلك، وقال: لا
(1) في المطبوع و (ك): "وعمر أو علي [أ] وابن عباس"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(2)
ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط.
(3)
في (ك): "ودونهم" وفي (ق): "ومن دونهم".
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(5)
في (ق): "التشبه" وفي (ك): "التشبيه".
(6)
في (ق) و (ك): "الشبه".
يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا [من](1) مذهبه، فهلا اتبعته فيه؟ ويقال:
تاسعًا: هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أوْلى بالصواب من سائر من رغبتَ عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال: "أنا على بصيرة" قال ما يعلم بطلانه، وإن قال:"لست على بصيرة" وهو الحق قيل له: فما عُذْرُكَ غدًا بين يدي اللَّه حين لا ينفعك مَنْ قلدته بحسنة واحدة، ولا يحمل عنك سيئة واحدة، إذا حكمت وأفتيت بين خَلْقه بما لست على بصيرة منه: هل هو صواب أم خطأ؟ ويقال:
عاشرًا: هل تدّعي عصمة متبوعك أو تجوّز عليه الخطأ؟ والأوّل لا سبيل إليه، بل تقرّ ببطلانه؛ فتعين الثاني، وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف (2) تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الفروج (3)، وتنقل الأملاك (4) وتضرب الأبْشَار يقول من أنت مُقِر بجواز كونه مخطئًا. ويقال:
حادي عشر: هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين اللَّه الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشَرَعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين اللَّه الذي شَرَعَه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بُدَّ لك من قولٍ من هذه الأقوال، ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا؛ فإن دين اللَّه الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالِفِهِ أن يكون من الآثمين، والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث، فياللَّه العجب! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمرٍ أحْسَنُ أحواله وأفضلها لا أدري؟
فإن كنْتَ لا تَدْرِي فتلك مصيبةٌ
…
وإن كنتَ تَدْرِي فالمصيبةُ أعْظم
ويقال: ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالَهم بمنزلة نصوص الشارع؟ وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أوْلى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(2)
في (ن) و (ك): "وإذا جوز عليه، فكيف"، والثمانية أفعال الآتية فيها بالياء لا التاء.
(3)
في المطبوع: "وتريق الدماء، وتبيح الدماء، وتبيح الفروج".
(4)
في المطبوع: "الأموال".