الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أنفسنا من خشاشة1، وايم الله لئن ملك أعنة خيل تنقاد له، لتركبن منه طبقًا2 تخافه". فقال معاوية:"إن يطلب مروان هذا الأمر، فقد طمع فيه من هو دونه، وإن يتركه يتركه لمن فوقه، وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة، ولا يذكركم عند ملمة، يسومكم خسفًا3، ويسوقكم عشفًا4" فقال ابن الزبير: "إذن والله يطلق عقال الحرب بكتائب تمور5 كرجل الجراد، حافاتها الأسل، لها دوي كدوي الريح، تتبع غطريفًا6 من قريش، لم تكن أمه راعية ثلة7".
فقال معاوية: "أنا ابن هند، أطلقت عقال الحرب، فأكلت ذروة السنام، وشربت عنفوان المكرع8، وليس للآكل بعدي إلا الفلذة9، ولا للشارب إلا الرنق10". فسكت ابن الزبير.
"شرح ابن أبي الحديد م4: ص493، والعقد الفريد 2: 115، والبيان والتبيين 2: 44"
1 الخشاشة: واحدة الخشاش بتثليث الخاء، وهي حشرات الأرض والعصافير ونحوها "وفي الأصل حشاشة وهو تصحيف".
2 الطبق: الحال ومنه قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} .
3 أي: يوليكم ذلا.
4 العسف: الظلم، وسلوك الطريق على غير هداية.
5 تمور: تضطرب.
6 الغطريف: السيد الشريف.
7 الثلة: جماعة الغنم أو الكثيرة منها.
8 عنفوان الشيء: أوله أو أول بهجته، والمكرع: المورد، مفعل من كرع في الماء أو في الإناء.
9 الفلذة: القطعة من اللحم.
10 ماء رنق كعدل وكتف وجبل: كدر.
142-
عبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص:
قدم عبد الله بن الزبير على معاوية وافدًا، فرحب به وأدناه، حتى أجلسه على سريره، ثم قال: ما حاجتك أبا خبيب1؟ فسأله أشياء، ثم قال له: سل غير ما سألت، قال:
"نعم، المهاجرون والأنصار ترد عليهم فيئهم، وتحفظ وصية نبي الله فيهم، تقبل
1 هي كنية ابن الزبير، كني بابنه خبيب، وكان أسن ولده، ويكنى أيضًا أبا بكر.
من محسنهم، وتتجاوز عن مسيئهم" فقال معاوية:"هيهات، هيهات؟ لا والله ما تأمن النعجة الذئب وقد أكل ألْيَتَها1". فقال ابن الزبير: "مهلا يا معاوية، فإن الشاة لتدر2 للحالب، وإن المدية في يده، وإن الرجل الأريب ليصانع ولده الذي خرج من صلبه، وما تدور الرحاء إلا بقطبها3، ولا تصلح القوس إلا بعجبها4" فقال: "يا أبا خبيب، لقد أجررت الطروقة قبل هباب الفحل5، هيهات! وهي لا تصطك لحيائها اصطكاك القروم السوامي6". فقال ابن الزبير: "العطن بعد العل، والعل بعد النهل7 ولا بد للرحاء من الثفال8 ثم نهض ابن الزبير"، فلما كان العشاء أخذت قريش مجالسها، وخرج معاوية على بني أمية، فوجد عمرو بن العاص فيهم، فقال: ويحكم يا بني أمية! أفيكم من يكفيني ابن الزبير؟ فقال عمرو: أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين قال: ما أظنك تفعل، قال:"بلى، والله لأربدن9 وجهه، ولأخرسن لسانه، ولأردنه ألين من خميلة10". فقال: دونك، فاعرض له إذا دخل، فدخل ابن الزبير -وكان قد بلغه كلام معاوية وعمرو- فجلس نصب عيني عمرو، فتحدثوا ساعة، ثم قال عمرو:
وإني لنار ما يطاق اصطلاؤها
…
لديَّ كلام معضل متفاقم11
فأطرق ابن الزبير ساعة ينكث في الأرض، ثم رفع رأسه وقال:
1 الألية: ما ركب العجز من شحم ولحم.
2 در اللبن وغيره من بابي ضرب وقتل، ودرت الناقة بلبنها أدرته.
3 قطب الرحا: ما تدور عليه، والرحاء ممدود الرحا.
4 العجب: مؤخر كل شيء.
5 ناقة طروقة الفحل: بلغت أن يضربها الفحل، وأجره رسنه: جعله يجره، وهب الفحل من الإبل وغيرها هبابًا وهبيبًا: أراد السفاد.
6 تصطك: تضطرب. والقروم: جمع قرم بالفتح وهو الفحل، والسوامي جمع سام: وصف من سما الفحل سماوة: تطاول على شوله "والشُّوَّل كركع جمع شائل وهي الناقة تشول بذنبها للقاح".
7 العطن: مبرك الإبل حول الحوض، والعل والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول.
8 الثفال: جلد أو نحوه يبسط تحت الرحى ليقع عليه الطحين.
9 أي لأصيرنه أربد، من الرُّبدة بالضم: وهي لون إلى الغبرة.
10 الخميلة: القطيفة، وفي الأصل:"ولأوردنه" وهو تحريف.
11 تفاقم الأمر: عظم.
وإني لبحر ما يسامَى عبابُه
…
متى يلقَ بحري حرّ نارك تخمد
فقال عمرو: والله يابن الزبير إنك ما علمتُ لمتجلبب جلابيب الفتنة، متأزر بوصائل1 التيه، تتعاطى الذّرى الشاهقة، والمعالي الباسقة، وما أنت من قريش في لباب جوهرها ولا مؤنق2 حسبها". فقال ابن الزبير:"أما ما ذكرت من تعاطي الذرى؛ فإنه طال بي إليها وسما ما لا يطول بك مثله، أنف حمي، وقلب ذكي، وصارم مشرفي، في تلبيد فارع3، وطريف مانع، إذ قدع بك انتفاخ سحرك4، ووجيب5 قلبك، وأما ما ذكرت من أني لست من قريش في لباب جوهرها، ومؤنق حسبها، فقد حضرتني وإياك الأكفاء، العالمون بي وبك، فاجعلهم بيني وبينك، فقال القوم: قد أنصفك يا عمرو. قال: قد فعلت، فقال ابن الزبير: "أما إذ أمكنني الله منك فلأربدن وجهك، ولأخرسن لسانك، ولترجعن في هذه الليلة، وكأن الذي بين منكبيك مشدود إلى عروق أخدعيك6، ثم قال: أقسمت عليكم يا معاشر قريش، أنا أفضل في دين الإسلام أم عمرو؟ فقالوا: اللهم أنت، قال: فأبي أفضل أم أبوه؟ قالوا: أبوك حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وابن عمته، قال: فأمي أفضل أم أمه؟ قالوا: أمك أسماء بنت أبي بكر الصديق، وذات النطاقين، قال: فعمتي أفضل أم عمته؟ قالوا: عمتك سلمى بنت العوام صاحبة رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من عمته، قال: فخالتي أفضل أم خالته؟ قالوا: خالتك عائشة أم المؤمنين، قال: فجدتي أفضل أم جدته؟ قالوا: جدتك صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: فجدي أفضل أم جده؟ قالوا: جدك أبو بكر الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:
قضت الغطارف من قريش بيننا
…
فاصبر لفضل خصامها وقضائها
1 الوصائل: جمع وصيلة، وهي ثوب مخطط يمان.
2 آنقني الشيء إيناقًا: أعجبني، فهو مؤنق وأنيق: أي حسن معجب.
3 فارع: عالٍ.
4 السحر ويحرك ويضم: الرئة، وانتفخ سحره: عدا طوره وجاوز قدره.
5 خفقان واضطراب.
6 الأخدعان: عرقان في موضع الحجامة.